عندما نتكلم فنحن نقود مستمعاً أو مستمعين للوصول لمعنى محدد، وعندما نكتب فمن المؤكد أننا ندفع بالقارئ لفهم شىء ما على النحو الذى نريده. ولذلك يمكن وصف خطاب التنحى بالعبقرية، فظاهر الكلمات فى هذا الخطاب يقول إن الرئيس جمال عبدالناصر قد اتخذ قرارا بالتنحى وترك منصبه، غير أن أبسط تحليل لمحتوى هذا الخطاب يؤكد أنه قد اتخذ قراراً بالبقاء فى منصبه، وأنه يطلب من الشعب التصديق على قراره، وهو ما حدث فعلاً، هذا هو ما تؤكده كلمات الخطاب. إن صياغة كلمات الخطاب تؤكد أن الهدف منه كان الحصول من الشعب على قرار بعدم التنحى.
ظاهر الكلمات يمضى فى طريق، ومحتواها والهدف منها يمضى فى طريق آخر. فنحن نفهم مثلا من ظاهر كلمات الخطاب أنه عاجز عن تنفيذ القرار بالتنحى، لذلك هو يطلب من الشعب مساعدته ليتنحى. والترجمة الفورية لذلك هى: (أنا خلاص أخذت قرار بإنى أمشى، بس بصراحة مش قادر أمشى ولذلك أنا عاوزكم تمنعونى من المشى.. وهى صورة شهيرة فى أدبياتنا، فعندما يقول شخص عزيز علينا بعد إذنكم يا جماعة أنا هامشى، نصيح فيه على الفور تمشى تروح فين يا راجل؟.. والنبى لتقعد شوية)، كاتب الخطاب خبير حقيقى بما تفعله الكلمات فى البشر. وهى خبرة تكاد تصل لحد العبقرية، فلقد حرص مثلا على إضافة كلمة «رسمى» لكلمة منصب. وهو ما يعنى بوضوح أنه لا يمانع فى أن يحتل منصبا غير رسمى. تُرى ما هو ذلك المنصب غير الرسمى الذى يليق به؟
أرجو أن تلاحظ أنه يريد التنحى، ليس ليجلس فى البيت عاطلا عن العمل، بل ليعود لصفوف الجماهير. كما لو أن الجماهير فى مصر بالذات تقف صفوفا فى الشارع، وهو سيعود لصفوفها ليعمل بين هذه الصفوف. تُرى ماذا سيكون منصبه غير الرسمى؟.. مع هذه الجملة تكون الرسالة قد وصلت تماما للشعب المصرى فى لحظات يشعر فيها بالهزيمة والضياع، لقد خسر الحرب، وها هو على وشك أن يخسر رئيسه، وهو ما أشعر الناس فى الشارع بضياع طغى على إحساسهم بمرارة الهزيمة.
لنتأمل الجملة التالية: «وأقول لكم بصدق، وبرغم أى عوامل قد أكون قد بنيت عليها موقفى فى الأزمة».. فهمت حاجة حضرتك من هذه الجملة؟ هل هى تعنى شيئا محددا؟ الواقع أن هذه الجملة غير المفهومة استخدمها الخطاب كتخشينة يسند بها الجملة التالية وهى: «فإننى على استعداد لتحمل المسؤولية كلها».. هو ليس مسؤولا عما حدث، غير أنه لفرط كرمه ونبله على (استعداد) لتحمل المسؤولية كلها.. إنها شهامة أولاد البلد ليس أكثر.
ومع ذلك، أقول أنا أيضا بكل صدق إن كاتب الخطاب لم يكن مطالبا بكل هذه الحيل اللغوية والمراوغات اللفظية، فقد كان من المستحيل أن يسمح الشعب لعبدالناصر بالخروج من منصبه فى ذلك الوقت حالك السواد. كان من الطبيعى أن يبقيه فى مكانه ليتعامل مع مفردات الهزيمة. إن القرار الذى اتخذه اللاوعى الجمعى للشعب المصرى، ببقاء عبدالناصر فى مكانه، كان القرار الصحيح نفسياً وسياسياً وأخلاقياً.
ملاحظة: «ألقى الرئيس عبدالناصر خطاب التنحى يوم ٩ يونيو سنة ١٩٦٧»