أن تقفَ فى حضرة قامتين فكريتين وعلميتين هائلتين، فأنت بالتأكيد محظوظٌ لأنك ابن تلك البلد التى تُنجب العظماءَ منذ آلاف السنين وحتى انقضاء الدهر. أحدهما يمتلك حِرفة وموهبة «تشريح» عقل الإنسان وروحه، ونبش ماضيه وتاريخه القديم ليقف على أسباب علّته الراهنة فيجد الدواء ويُشفى الإنسان، والآخر يمتلكُ حِرفة موهبة «تشريح» عقل المجتمع وروحه، ونبش ماضيه وتاريخه القديم ليقف على أسباب علّته الراهنة، فيجد الدواء، ويُشفى المجتمع.
فى صباى المبكّر، حينما دخلتُ فى مرحلة «التهام» الكتب، ابتكرتُ تنظيم برنامج قرائى صارم، غير قابل للمراجعة، بحيث أخصص كلَّ ستة أشهر من عمرى لقراءة فرع واحد من فروع المعرفة. اكتشفتُ وقتها أنه من العبث منح تلك الشهور النحيلة لكل من الحقلين الشاسعين اللذين تخصص فى حرثِهما هذان العالمان الكبيران. الطب النفسى، الذى يحرثُ حقلَه النجيبُ: د. أحمد عكاشة، وعلم المصريات، الذى يحرثُ حقلَه: د. وسيم السيسى.
النفسُ الإنسانية، بكل تعقيداتها وتراكماتها وتجذُّر سلوكاتها واختلاف ردود أفعالها وتفرّدها عن سواها فى كل إنسان من بين مليارات البشر. اشتق هذا العلمُ اسمَه من اسم الأميرة سايكى Psyche، بجمالها الجمال الفائق الذى أشعل الغيرةَ فى قلب ربّة الجمال ڤينوس لأنها شغلت الناس عن عبادتها، فأمرت ابنَها كيوبيد أن يصيبها بسهم الحب لتقع فى هوى أكثر الرجال فقرًا ودمامة. إلا أن كيوبيد أحبها فرمى قدمَه بسهم. لكنه إله وهى إنسان، فكان ممنوعًا أن تراه حين يزورها كل ليلة. لكن شقيقتيها أوعزتا لها أن تنظر إليه، فغضب كيوبيد واختفى، فضربها الحزنُ وهامت على وجهها إلى هيكل ڤينوس تستعطفها، فأمرتها أن تحملَ صندوقًا صغيرًا وتذهبَ إلى العالم السُّفلى لتعبئه من جمال زوجة بلوتو، وألا تفتحَ الصندوق. لكن فضولَها جعلَها تفتحه فلم تجد جمالا، بل وجدت نومًا يشبه الموات. ولمّا وجدها كيوبيد ملقاةً فى الصحراء كالموتى، رقَّ قلبُه لها، فانتزعَ منها النومَ ووضعه فى الصندوق، ثم تزوجها. فمَنَّ عليها چوبيتر بالألوهية لتصيرَ ربّةَ الروح. ومنها اِشْتُقَّ علمُ النفس Psychology.
وأما علم المصريات الذى تخصص فيه الطبيب والعالم الموسوعى د. وسيم السيسى، فهو علمٌ تتفرّد به مصرُ دون سائر بلاد هذا الكوكب. Egyptology. فليس من بلد آخر حمل المقطع ology أى علم، سوى أرضِنا، لأن أرضَنا أقدمُ حضارات الأرض.
أقف فى حضرة هذين العالمين فى قاعة الفندق الأنيق وهما يمنحان طبيبين شابين جائزة عكاشة السنوية للطب النفسى، بعد محاضرة قيمة ألقاها السيسى تتكلم عن منشأ التوحيد والأديان من أرض مصر الطيبة قبل سبعة آلاف عام، فأزدادُ فخرًا ببلادى المشرقة التى صنعت فجرَ الضمير الإنسانى، وفخرًا بأبناء بلادى الذين علّموا العالمَ شؤونَ النفس وشؤونَ الحضارات. شكرًا يا مصرُ، وطوبى لكل علماء مصر النجباء.
Twitter: @FatimaNaoot