بعد أكلة دسمة «دبيتها» فى وجبة الغذاء التى احتوت من خيرات ربنا على كل أسباب الأمراض التى يعانى منها البشر.. من طبق فتة تعلوه الهبر إلى طبق بامية باللحمة الضانى بايت من إمبارح.. تجاوره صينية البطاطس الخارجة لتوها من الفرن وقرن الفلفل بداخلها يرتجف بين فقاقيع «الدمعة» التى تغلى مع صحن ملوخية بالأرانب باعتاه حماتى كجزء من المعونة التى تشارك بها.. ليصبح لها الحق فى أن تفرض رأيها فى البيت.. نظرت إلى صحن الملوخية وبدا لى كطائرة أباتشى أتت إلينا أخيراً بعد طول انتظار.. وبعد أن التهمت كل هذه الكائنات ليلتقى لأول مرة لحم البقر مع لحم الأرانب مع لحم الدجاج ولحم الخروف فى ذلك النفق المظلم المؤدى إلى مقبرة الحيوانات معدتى!
هنا فقط بدأت أشعر بجسامة الجرم الذى ارتكبته.. كان هذا الهجوم المفاجئ على معدتنا مربكاً ومخيفاً.. واندفع الدم كله نحو معدتنا المسكينة محاولاً أن يشد من أزرها فى تلك المعركة الضارية.. وبدت معدتنا كحوثى يتلقى الضربات من عاصفة الحزم.. واستلقيت على الكنبة وقد انتابتنى حالة من التهييس والشرود محاولاً أن أحدد تلك الحيوانات المسكينة التى فقدت حياتها من أجل عملتى هذه!!. البقرة التى تحولت إلى فتة.. والفرخة التى كانت تمرح فى عشة ما.. ثم اختطفت وذبحت ووجدت نفسها راقدة فى صينية البطاطس بجوار قرن الفلفل وذلك الأرنب اللطيف الذى انتهى به المطاف غارقاً فى صحن الملوخية!!.
ولم أستطع أن أغالب شعورى بالخجل الشديد من نفسى.. ذلك الشعور الذى لا أحس به إلا بعد الشبع طبعاً.. وبدأت لحظة تأمل فكرية إنسانية ما كانت لتخطر على بالى أبداً وأنا جعان.. إخوانى.. أرجوكم.. لنطرح ذلك السؤال الذى لا نريد أبداً أن نطرحه: ما الذى بيننا وبين الحيوانات.. ومتى يشعر الإنسان بالخجل من هذه الممارسات الوحشية التى يمارسها مع شركائنا على ظهر الكوكب؟!.. المشكلة أن الإعلام كله مع الإنسان وحقوق الإنسان.. ولا توجد أبواق دعاية للحيوانات على ظهر الأرض.. ربما نسمع أحياناً عن جمعيات للرفق بالحيوان فى شكل دعائى تمثيلى رخيص.. ومحاولة مكشوفة ووضيعة لكى يبدو الإنسان كائناً راقياً وهو يحنو على الحيوان وهى أكبر كذبة عاشتها البشرية.
ولقد شاهدت نجمة الإغراء الفرنسية بريجيت باردو ذات مرة وهى تدعو العالم كله للرفق بالحيوان.. كانت ترتدى شورت ساخن مثير.. وبلوزة بحملات رفيعة تبرز مفاتنها.. مما جعلنى أتحفظ بعض الشىء على دعوتها.. وأؤكد أنها كان يجب عليها أولاً الرفق بالإنسان !!. وإنى لأتوجه هنا لهيئات حقوق الإنسان ولكافة الحقوقيين أرجوكم كفاكم هرياً ولتاً وعجناً من أجل هذا الكائن المفترس.. صدقونى.. دعوكم من الإنسان ده خالص.. ولا يسوى.. ركزوا فى هذه الكائنات المسكينة التى تعانى كل أنواع القهر والاستبداد.. ولنتأمل معاً أحوال الحيوانات على ظهر كوكبنا لنعرف بشاعة الجرم الذى اقترفناه بحقها.. كلكم طبعاً شاهدتم تلك المعتقلات التى يسميها الإعلام الإنسانى «حديقة الحيوان» حيث نجد الأسود مثلاً معتقلين فى أقفاص حديدية تقف فى مذلة ومهانة واستسلام.. تنظر فى ضيق لحضرتك وقد أتيت مع المدام والأولاد كى تتفرج عليها.. وابنك «المضروب» مُصر على أن يأخذ سيلفى مع ملك الغابة فى وضاعة منقطعة النظير..
ويسمونها.. حديقة الحيوان.. ما أكذب الإعلام!
ومعسكرات التعذيب تلك التى تسمونها «السيرك العالمى».. هل رأيتم الحيوانات وهى تتحرك فى خضوع واستكانة لتنفذ أوامر ذلك المروض المفترس الذى يحمل كرباجاً فى يده وينهال به عليها.. فى صلف وتكبر ورخامة.. والأسد ينظر نحوه ولسان حاله يقول:
- آه لو كنت قابلتك فى الغابة يابن الـ...
وشعرت اللبؤة بما يجول بخاطر الأسد فقالت له فى ضيق:
- وأنت بتدخلنى أنا فى الموضوع ده ليه؟. أنا مالى.. أنت ح تطلع غُلبك فيا أنا!!.
وانظروا إلى الماتادور الإسبانى وهو يقف مزهواً بحلته المزركشة وينهال بكل قسوة بحربته ليغمدها فى صدر الثور فتنفجر منه الدماء بين تهليل وتصفيق وإعجاب البشر!!. ولم يكتف الإنسان بكل هذه المذابح بل تعداها إلى أن يحقن الأبقار والدجاج بهرمونات حتى تكبر بسرعة.. لكى تذبح طبعاً.. وفى مزارع الدواجن يتركون الإضاءة داخل المزرعة ليل نهار.. حتى لا ينام الدجاج ويظل يأكل.. ويأكل.. حتى إن الديوك لم تعد تعرف إذا كان الفجر قد طلع أم لم يطلع بعد.. ولم تعد تؤذن كل صباح كما كانت تفعل زمان..
ولهذا فأنواع كثيرة من الحيوانات تنقرض وتختفى من على ظهر الكوكب.. طبعاً أنا أتكلم هنا بشكل عام ولا أحب أن أشخصن الموضوع وأتعرض لما يحدث هنا فى بلادنا.. والحمير هم خير شاهد على كلامى.. حيث إن المسألة لا تقتصر على الضرب والركل فقط.. والعمل الشاق المضنى نظير حفنة من التبن أو من البرسيم.. بل إن المسألة دخلت فى أمور شخصية، حيث يتعرض الحمار لسخرية مهينة دون أن يقترف أى ذنب سوى أنه يقوم بعمله مخلصاً بكل ما يملك من طاقة أو جهد ودون أى مطالب فئوية ودون أن يستخدم حقه فى التظاهر أو الخروج فى مسيره.. وإنى لأحذركم من ذلك.. لو خرجت الحمير والخراف والجاموس والكلاب.. سيحدث ما لا يحمد عقباه.
كانت كل هذه الأفكار تمر على شاشة ذهنى وقد تملكنى ذلك السؤال النخبوى الرفيع: لماذا نضطهد الحيوانات كل هذا الاضطهاد.. كأن ثأراً بيننا وبينهم؟. نعم يا سيدى عرفنا والله أن أسوداً قد افترست بشراً.. وأن نموراً فعلت ذلك.. ولكن هل سمعنا عن أسد ظل يدق فى مواسير إنسان ليخرج منها البهريز وظل يلعقه بسعادة غامرة.. هل سمعنا مثلاً أن حيواناً مفترساً (كما تقول دعايتكم الكاذبة) قام بفرم لحم إنسان وعمل فتة أو سجق!!. هل أخرج نمراً أمعاء إنسان وقام بحشوها بالرز والبهارات ليعمل ممبار؟!. إن هذا الحيوان الجائع المسكين لم يكن أمامه حل آخر ليسد جوعه سوى أن يقضم له قضمة من كتف هذا المخلوق التافه الذى يمشى مزهواً فى الغابة متباهياً بأنه يمشى على قدميه فقط، ساخراً برزالة من تلك المخلوقات التى تمشى على أربع..
- تتعشى إيه النهارده؟!.
كان هذا هو السؤال التى ألقت به زوجتنا فى وجهى لتقطع به شرودى النخبوى حول الإنسانية وممارساتها الوحشية والذى عكر مزاجى تماماً.. نظرت نحوها فى ضيق متذكراً أنها التى حرضت على الجريمة.. وأعدت تلك الوليمة.. ولا يزال صوتها يرن فى أذنى وهى تكلم الجزار برقة متناهية..
- عاوزه قطعية حلوه يا عم جابر بأة.. لحمة حمرا عشان نحمرها.. لأ.. خللى الملبسة دى للفتة.. والكبده أخبارها إيه؟!.
تستطيعون الآن أن تتصوروا عمق الشرخ الثقافى والحضارى بينى وبين هذه المرأة التى تعيش معى.. وبدأت ألتقط طرف الخيط أنها هى.. هى وجداتها الأوائل من ملايين السنين اللاتى قمن بتحريض الرجال على هذه المذابح البشعة.. كم كانت جدتها تظل تناكف فى جدى المسكين وهو جالس فى الكهف متأملاً مثلى.. شارداً فى أفكاره النخبوية وهى تدفعه دفعاً لكى يخرج ويقتل ويذبح.. ويخرج الرجل «جدنا» مضطراً بائساً هائماً على وجهه فى الغابة إلى أن يعود آخر الليل حاملاً فوق كتفه غزالة مذبوحة ينهمر دمها الطاهر على كتفه.. فتقابله جدتنا بذلك الفرح الهستيرى الموحش!!. وعادت زوجتى تسألنى:
- إنت.. فيه إيه.. مالك.. بقولك ح تتعشى إيه؟. لانشون.. ولا بسطرمة وفيه كام حتة بفتيك من إمبارح شايلاهملك.
هنا لم أستطع أن أتحمل أكثر من ذلك.. فانتفضت واقفاً فى غضب، هو غضب السنين، وقلت لها صارخاً فى وجهها بسخرية مُرة:
-أنا رايح أصطادلك الغزالة اللى إنتى عاوزاها.
نظرت نحوى مندهشة وقد فاجأتها الجملة وقالت:
-غزالة إيه!. إنت كويس!!.
قلت لها صارخاً بعد أن نفد صبرى..
- أيوه.. الغزالة.. عشان ندبحها ونسلخها ونشويها على النار.. مش ده اللى إنتى عاوزاه.
ومدت يدها على جبهتى لتجسنى وهى فى قمة القلق وقالت لى برقة شديدة:
- اقعد يا حبيبى.. ريح.. ريح خااااالص.
وجرت على التليفون لتكلم أمها «قاتلة الأرنب» وسمعتها تهمس لها:
- تعالى دلوقت يا ماما.. بقولك سخن نار ومش دريان بيقول إيه.. آه.. عمال بيخرف يا حبيبى.
ومسحت دمعة نزلت من عينيها.. وهى تنظر نحوى بإشفاق وعادت تقول لمامتها باكية:
- ده عاوز يروح يصطاد غزالة يا ماما!!. والله بيقول كده.. حاضر.. ح أبعده عن العيال خالص.
كان «محمود» ابننا ينظر نحوى بإعجاب شديد، تلك النظرة التى لم أعتدها منه قبل ذلك وجرى إلى أخته «هيا» سعيداً مصفقاً فخوراً بأبيه!!. وهو يهتف بها:
- هيا.. بابا رايح الغابة.. ح يصطاد غزالة.
لم تعلق «هيا» على الأمر وابتسمت ابتسامة ساخرة، واستمرت منشغلة بالحديث مع أصحابها على «الواتس آب» والإنستوجرام.
ولما كانت حماتى قد نصحت ابنتها بأن تأخذنى أنا والأولاد لنخرج.. ونشم الهوا ونغير جو.. فقد خرجنا.. ولأول مرة.. كانوا جميعاً فى منتهى اللطف والهدوء ولم يعكر صفو خروجتنا تلك الغلاسات المعتادة من محمود أو من هيا.. فقد سمعت المدام وهى تهمس لهم قبل خروجنا.
- يا ولاد.. بابا تعبان شوية.. ولازم نبأة مؤدبين عشان مانضايقوش، ولو قال كلمة كده ولا كده نفوت له ما نقفلوش ع الكلمة.. انتوا عارفين بابا بيحب يهزر.
وللحق قضينا سهرة عائلية جميلة وهادئة.. وتناولنا العشاء فى مطعم لطيف.. وعدنا.
والحمد لله أنا أشعر أننى أفضل الآن...
نعم؟!.
أنا أعرف السؤال الذى يجول بخاطركم يا أعزائى.. وماذا تعشيت؟!.
آه.. بالنسبة لى أنا.. هما اتنين شاورما واتنين كبده وواحد مخ.
* تليفونى زى ما هوه.. ما اتغيرش