قدم الكاتب والروائي اللبناني جبور الدويهي روايته «حي الأميركان» في عام 2013، ليكشف من خلالها عن شبكة من العلاقات بين سكان هذا الحي الفقير الواقع في مدينة طرابلس بشمال لبنان بما يعكس جانبًا مهمًّا من ملامح التأزم وعدم الاتساق الذاتي في الواقع العربي المعاصر. يعتمد الدويهي في هذه الرواية على السرد المباشر لقصص متداخلة تدور بين شخصيات ثلاثة رئيسة هي: «انتصار» التي تخدم في بيت آل العزّام، الذي تعود معرفتها به إلى زمن بعيد، إذ كان والدها يعمل مرافقًا لمصطفى بيك العزّام، وتعمل أمها خادمة في قصره، وهي خَلَفت أمّها في عملها. «عبدالكريم العزام» سليل الأسرة النافذة، التي تتقاطع حياتها مع حياة عائلة «انتصار»، وخاصة إثر عودة «عبدالكريم» من باريس محطم الفؤاد، بعد أن عاش قصة عاطفية مع راقصة صربية هجرته. وأخيرًا شخصية «إسماعيل بلال محسن» ابن انتصار البكر، وهو شاب صغير أجهضت أحلامه في حي الأميركان.
يلتقي إسماعيل مع عبدالكريم عبر انتصار التي وجدت في بيت آل العزّام أفضل مأوى لابنها بعد تورطه في مشكلات قانونية. يفتح عبدالكريم صدره للشاب الصغير، يُخبره عن حبيبته التي هجرته وهي حامل منه. يتصادقان ومن ثمّ يفترقان، لكنّ مصيرهما يغدو مشتركًا رغم الفوارق الكبيرة بينهما. اليأس غلب عليهما، فاختار عبدالكريم العزّام أن يحاربه بالشرب والسهر وسماع الموسيقى ومشاهدة صور حبيبته القديمة وملامسة فساتينها وأغراضها، أما إسماعيل فاختار طريقًا مغايرًا هو الانضمام إلى جمعية الهداية الإسلامية إلى أن يختفي لفترة من غير أن يعرف سبب غيابه حتى يُعرض فيديو تسجيلي عن عملية انتحارية نفذها في العراق.
يمتد زمان الرواية ما بين ثلاثينيات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي، ويصبح المكان ممتدًا على مساحة جغرافية تتجاوز طرابلس لتصل إلى العراق وفرنسا، وذلك من خلال استخدام الكاتب لتقنية الاسترجاع في عرض ماضي شخصياته وحيواتها. ومن خلال تشابكات أحداث الرواية يسلط جبور الدويهي الضوء على عدد من الإشكاليات المؤثرة في الواقع العربي المعاصر، لعل من أبرزها:
الانقسامات الطبقية والعوالم المتوازية في المجتمعات العربية
يرصد الكاتب من خلال الرواية التمايز الطبقي في المدينة عبر استعراض الأحوال الاجتماعية لطبقة أغنياء المدينة ووجهائها، من خلال عبدالكريم العزام الذي يرث الأحوال التي رست عليها الطبقة الغنية في المدينة، كما يرث سيرة والده الذي كان من أهم الزعماء المحليين، وتراجع دوره بعد موجة التشدد، وباتت العائلة مجرد حالة رمزية لا تملك أي نفوذ. كما يستعرض التحولات الاجتماعية - الاقتصادية في حياة فقراء المدينة من خلال قصة عائلة إسماعيل التي تبدو متصلة بقوة بتحولات الحي الذي خرج منه، حيث تتوسع هذه الحياة في دلالتها لتكشف الأطوار التي مرت بها طبقة الفقراء في مدينة طرابلس، من زمن تأدية الخدمات إلى أعيان المدينة ووجوهها السياسية مرورًا بمرحلة التشدد الديني، وصولاً إلى الانخراط بالجهاد العالمي.
ويمكن القول إن الرواية تعكس التوازي، وأحيانًا التقاطع، في أحوال الطبقتين الفقيرة والغنية، على نحو يعكس الثنائية التي تعيشها مدينة طرابلس بين أغنياء تقليديين لا يتذكرون الحي إلا وقت الانتخابات، فيما الفقراء الذين تحولوا إلى التشدد الديني والانغلاق، لا يلبثون أن ينخرطوا في جماعات متطرفة، ترسلهم لتنفيذ عمليات انتحارية، كما حدث مع إسماعيل.
واقع الإسلام السياسي في المجتمع العربي المعاصر
تقدم الرواية تشريحًا لظاهرة صعود الإسلام السياسي في المجتمعات العربية المعاصرة، إذ توضح من خلال أحداثها أن التشدد الديني ليس سمة أصيلة في هذه المجتمعات، حيث يستعرض الدويهي تاريخ مدينة طرابلس المسلمة والمنفتحة على بقيّة الأديان والثقافات، بحيث كان أولاد العائلات المسلمة يتلقون تعليمهم لدى «الإخوة المسيحيين»، كما كانوا يسمونهم.
أما عن مسببات بروز هذه الظاهرة، فيرى الدويهي أن الفقر والتهميش اللذين تعانيهما الطبقة الفقيرة لا يمكن أن ينتج عنهما إلا الانفلات أو التشدد، فنتيجة ظرفهم المدقع، لا يجد شباب «حيّ الأميركان» سوى الجهاد الديني كسبيل إلى الخروج على الضغط اليومي. وتجدر الإشارة إلى أن «الدويهي» يبقى على الحياد ولا يقدم حكمًا على ذلك التحول، فهو لا يدين «إسماعيل» ولا يؤيده، فقط يصور حياته، ويترك للقارئ أن يتعاطف معه أو ينبذه.
وفي السياق ذاته توضح الرواية طبيعة إدراك عموم أبناء الطبقة الفقيرة لهذه الظاهرة التي تتيح لهم السبيل لتجاوز مشكلات واقعهم عبر الاهتمام بقضايا ومشكلات خارجية، فرغم فقر الحي يهتم أبناؤه بالجهاد في العراق بدلاً من محاولة تحسين أوضاعهم، وهذا ما يتأكد أيضًا عند عودة إسماعيل من العراق، إذ يجد صوره قد تحولت إلى ملصقات تكشف عن تحوله لأيقونة يثبت من خلالها أبناء هذا الحي الفقير قدرتهم على إحداث تغيير ملموس في العالم.
ولكن على الجانب الآخر تؤكد الرواية عدم تأصل هذه الظاهرة بين أبناء الحي بهذه القضايا، بل على العكس تحاول نفيها وإظهار هشاشتها. إذ يختفي إسماعيل محسن في نهاية الرواية بعد أن كان بطلاً وشهيدًا في وعي سكان الحي بعدها تصبح قصصه مدعاة للضجر حين يصغون إليها من والده العجوز.
الخلاص المشترك
على الرغم من النهاية المفتوحة لهذه الرواية التي يختفي بطلها إسماعيل مع إبقاء مصيره سرًّا محجوبًا، فإنها تدفعنا إلى الاعتقاد بأن المستقبل يحمل فرصًا لتغيير الواقع المأزوم لمجتمعاتنا، ويمكن القول إن الكاتب يجعل المستقبل رهنًا بالطفولة والفنّ، فالطفولة جعلت إسماعيل يعدل عن تفجير نفسه في العراق حين رأى بين ركاب الحافلة التي أرسل لتفجيرها طفلاً يشبه شقيقه؛ كما أن فن عبدالكريم جعله ينأى بنفسه عن زعامات عائلية فاشلة ويعطف على إسماعيل ويحميه.
كما أن الدويهي يؤكد في ختام الرواية أن الخلاص مشترك، بدليل لجوء إسماعيل إلى آل عزام، حيث يقوم عبدالكريم بتهريبه من يد الأمن عبر إلباسه ثوبًا من أثواب حبيبته فاليريا، وكأن التخلُّص من ذكرى الحبيبة لدى عبدالكريم تزامن مع تخلص إسماعيل من مساره الجهادي.