لم يعرف العالم فى تاريخه الحديث دستوراً طالب بعض من دعوا الناس للموافقة عليه بتعديله قبل أن يبدأ تطبيقه. لم يكن قد مضى سوى شهور معدودات عقب الاستفتاء فى يناير 2014 على أفضل دستور مصرى (منذ دستور 1923)، حين بدأ بعض من تحمسوا له وآخرون فى الحديث عن «أخطار» متضمنة فى بعض نصوصه.
وحين يهاجم الدستور بعض من يُفترض أن يدافعوا عنه، فى الوقت الذى يبقى فيه معطَّلا من الناحية الفعلية فى غياب البرلمان المنوط به مراجعة النظام القانونى فى ضوئه، فليس غريباً أن يتلاعب به بعض من يرفضونه ويلجأون إلى «التقية» فى التعامل معه، وهم يحلمون باستعادة دستور 2012 الذى قاموا بالدور الرئيسى فى إضفاء طابع دينى عليه خلال حكم جماعة «الإخوان».
وجاء حديث أحد قادة حزب النور قبل أيام عن أن الدستور يمنع إنشاء ما سماه أحزاباً للشيعة والملحدين تعبيراً عن هذا التلاعب. فالطعن فى الدستور من جانب بعض من تتوجب عليهم حمايته يعطى من يعيبهم وجوده ذريعة لتفسيره على مقاساتهم.
فكان مفترضاً أن يقوم حزب النور بتوفيق أوضاعه، قبل أن يتحدث عن غيره، احتراماً لما جاء فى هذا الدستور، رغم عدم تعديل قانون الأحزاب السياسية لينسجم معه حتى الآن. مازال وضع حزب النور ملتبساً فى ظل النص الجديد الوارد فى المادة 74 من الدستور، وهو: (لا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى، أو قيام حزب سياسى على أساس دينى). وهو يعتمد على أن تعطيل الدستور فعلياً حال دون تعديل قانون الأحزاب وفق المادة 74 من الدستور. ويعود هذا الالتباس إلى العلاقة الوثيقة المعروفة بين هذا الحزب وجمعية الدعوة السلفية، وهذه جمعية دينية قلباً وقالباً. ولذلك فلا فرق، وفقاً للدستور، بين الأساس الدينى على هذا النحو، والأساس الطائفى الذى يُمنع بموجبه تأسيس حزب شيعى. أما الزج بكلمة الملحدين بمناسبة وبدونها، فهو أسلوب من أساليب القوى التى تخلط بين الدين والسياسة لصرف الأنظار عن مشكلة كبيرة حقيقية إلى أخرى وهمية لأن افتراض إنشاء حزب للملحدين ليس وارداً بأى حال. وحتى إذا أراد ملحدون تأسيس حزب، فالأرجح أنهم سيمارسون «التقية» التى يتبعها مؤسسو أحزاب دينية.
ولا يقتصر سوء القصد فى التعامل مع الدستور الحالى على من اضطروا إلى قبوله على مضض، وضغطوا لاستبعاد النص على الدولة المدنية فى متنه، ثم تمكنوا من تغييرها فى ديباجته إلى دولة حُكمُها (أى نظام حكمها فى مجمله) مدنى، ثم نجحوا فى الهبوط بالصياغة إلى (دولة حكومتها مدنية). فيظهر سوء القصد أيضا فى الهجوم على الدستور بسبب ما يتضمنه من حقوق وحريات ظلت الحركة الديمقراطية تناضل من أجلها طويلا، رغم أن أهم ما جاء فيه بشأنها لم ير النور بعد لأن تطبيقه يستلزم تنزيله فى نصوص قانونية.
غير أن الافتراء على هذا الدستور لا يحدث من باب سوء القصد فقط، بل يرتبط بسوء فهم فى بعض الأحيان، لأن بعض من يتحدثون عن «أخطار» يتخيلونها فيه كانوا فى مقدمة الصفوف ضد إصرار سلطة «الإخوان» على فرض دستور مُحمَّل بأثقال سلفية.
خذ على سبيل المثال الضجة التى تُثار من وقت إلى آخر حول المادة 156 التى تنص على أن القرارات بقوانين التى أصدرها رئيس الجمهورية فى غياب البرلمان تُعرض على مجلس النواب الجديد لمناقشتها والموافقة عليها خلال 15 يوماً فقط من انعقاده.
وليس مفهوما لماذا يكون هذا مصدر خطر يظنه البعض داهماً. فإذا كانت المشكلة فى ضيق الوقت (15 يوماً)، وخاصة فى ظل تضخم عدد القرارات بقوانين نتيجة التأخر فى إجراء الانتخابات، فليس صعباً توزيعها على لجان المجلس لإعداد تقارير عنها خلال أسبوع تعمل فيه هذه اللجان بأقصى طاقتها، ثم التصويت على هذه التقارير مباشرة فى الجلسات العامة. وحتى بافتراض أن الوقت لن يتسع لبعض القرارات بقوانين، يمكن للمجلس اعتمادها مبدئياً على أن يطلب من يعترضون عليها أو على بعض نصوصها مناقشتها فى أى وقت بعد ذلك.
ولعل أكثر ما يتعلق بسوء الفهم، هنا، هو الخوف المرضى من رفض المجلس بعض القرارات بقوانين التى أُصدرت خلال الفقرة الماضية اعتقاداً فى أن هذا الرفض سيُحدث ارتباكاً نحن فى غنى عنه. ولا أساس فى الحقيقة لهذا الخوف لأن النص الدستورى يجيز للمجلس تسوية ما ترتب عليها من آثار.
ويدخل فى باب سوء الفهم أيضاً موضوع العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ودور البرلمان فى اختيار الحكومة. فلا جديد فى هذا الموضوع إلا «دسترة» الأمر الواقع الذى يفرض نفسه فى حالة وجود أغلبية برلمانية معارضة للرئيس، حيث يتعين التشاور بينهما فى اختيار رئيس الحكومة وتشكيلها. أما حين تكون الأغلبية مؤيدة للرئيس، أو فى غياب أى أغلبية، ينفرد الرئيس بتشكيل الحكومة.
وينطبق ذلك على موافقة أغلبية مجلس النواب على قرار الرئيس بإعفاء الحكومة. فلا قيمة لهذا الشرط فى وجود أغلبية مؤيدة للرئيس أو فى غياب الأغلبية. أما إذا كانت الأغلبية معارضة، فمن الطبيعى أن يتشاور الرئيس معها حتى لو لم يكن هناك نص دستورى من أصله، لأنها تستطيع منع الثقة عن الحكومة التالية.
وفى كل الأحوال يبقى الرئيس أقوى بكثير من البرلمان حتى إذا كانت فيه أغلبية معارضة، ويظل فى إمكانه الدعوة إلى استفتاء على حل البرلمان الذى يحتاج إلى وقت طويل لاتخاذ إجراءات سحب الثقة منه فى حالة حدوث صدام بينهما. غير أن هذه حالة نادرة أصلاً لم يعرفها تاريخ البرلمانات فى العالم إلا مرات قليلة، لأن الأصل فى العلاقة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية هو التفاهم والمواءمة وليس الصراع والصدام.