جُدران تأكل الضَبَخان

محمد المخزنجي الخميس 04-06-2015 11:19

مُعالَجة القتامة باجتهادات مُستدامة لمنع الملامة والندامة

«إذا كان هذا حال الواجهات فى الشوارع فما بال الرئات فى الصدور؟»، يتكرر السؤال كلما صعدت بى السيارة كوبرى الدقى فى اتجاه حديقة الأورمان لأرى عن قرب ذلك السواد الذى يكسو واجهات العمارات التى كانت منذ سنوات قليلة بيضاء أو سكرية البياض أو حتى رمادية شهباء. وبمصاحبة التساؤل يستدعى خاطرى صور رئات المدخنين المزمنين فى مشرحة كلية الطب، وكانت تبدو كأنها خِرَق نُقعت طويلاً فى سواد الزفت! وهاهى رئاتنا فى أكثر من مكان بقلب القاهرة، وسائر مدننا وربما قرانا المتورمة أيضاً، تُنقَع فى مثل ذلك السواد بغير زفت!

نظرة إلى قلب القاهرة من زاوية هضبة الأهرام تكشف عن هيمنة الضباب الدخانى القاتم على سماء العاصمة

إنه الضبخان وإنها الضبخانة، والضبخان ترجمة لكلمة SMOG المنحوتة من كلمتين هما smokeو fog، تُكوِّنان تعبير «الضباب الدخانى» فى العلوم البيئية، وقد اندمجتا للتيسير فى كلمة واحدة يمكن ترجمتها إلى العربية بنحت جائز لغوياً هو «الضبخان»، ويكون كل مكان يرتع فيه هذا الضبخان: ضبخانة على وزن كرخانة، مع الفارق بين نوعى العربدة والقذارة. ولا أعتذر عن قسوة التعبير، فالأمر شديد القسوة صحياً وجمالياً وحضارياً وأخلاقياً أيضاً؟!

يتكون ذلك الضبخان من تزاوج دميم بين بخار الماء فى الجو والأدخنة المُنبعثة عن حرق الوقود الأحفورى عموماً، خاصة الفحم، ثم اتسع المصطلح ليشمل الانبعاثات والعوادم الصادرة عن المصانع والسيارات والتى بتأثير ضوء الشمس فى الأجواء الحارة تنطلق منها ملوِّثات ثانوية أخطر كونها مؤكسِدات نهمة مُدمِّرة للخلايا الحية وتُشكِّل ما يسمَّى «الضباب الضوئى الكيميائى» الذى يطيح بشفافية ونقاء الهواء ويجعله بُنياً عَتِماً كريه الرائحة، يرتمى هامداً على الحيطان ليصبغها بقتامته، فيما يقضى بهذه القتامة على نظافة وحيوية رئاتنا التى تستنشقه وتنقل تأثيراته عبر دمائنا إلى أمخاخنا وقلوبنا وشراييننا، فى تسلل لئيم وأثيم، سرعان ما يُعلن عن نفسه بتفجيرات «إرهابية» من الأزمات القلبية والرئوية وباغتيالات العته المبكر!

ثانى أكسيد التيتانيوم المستخدم فى كريمات الوقاية من الشمس ومُلوِّنات الطعام يتحول فى ضوء الشمس إلى مُحفِّز كيميائى يُحبِط تكوين الضبخان

ليس فى كل هذه المخاوف الصحية أية مبالغة، فمؤشرات تلوث الهواء فى القاهرة الكبرى مفزعة، ولا يقل إفزاعها فى قلب العاصمة الذى ندعوه «وسط البلد» ويُفترض أنه محل عناية قصوى من مؤسسات الدولة التى يقبع مجلس وزرائها فى رحابه، والذى تدهسه نسبة كبيرة من قرابة 2 مليون سيارة تجوب العاصمة، تبعاً لإحصائية قديمة تعود إلى سنة 2007، وتبعاً للإحصائية ذاتها، هناك 300 ألف دراجة نارية تجوب شوارع القاهرة وحدها بمحركات من ذات الشوطين two-stroke motors، وهذه تنفث الواحدة منها ملوثات هيدروكربونية تعادل ما تنفثه عِدَّة سيارة ديزل بمحركات رباعية الأشواط.

فى مايو 2014 صنَّفت منظمة الصحة العالمية مصر ضمن أكثر ست دول ملوَّثة الهواء فى العالم، والضبخان عنوان هذا التلوث الواضح لكل ذى عينين تريان وأنف يشم، لهذا بدا جميلاً ذلك الزحف بتبييض واجهات أبنية وسط البلد التى سودها الضبخان، لكن هذه المعالجة بالتبييض تبقى سطحية قصيرة العمر، وبمعنى آخر عديمة الاستدامة، فلطالما استمر التلوث بالمعدلات المرعبة الحالية على حاله دون تحجيمه، سيظل الضبخان يتصاعد ليطمس بالقتامة ذلك الإشراق الجديد، فيما يكون مُستمراً فى إعتامه لرئات مرتادى «وسط البلد»، لهذا أرى هذا «الترميم» قصير العمر، بل مُخادِع أيضاً، نفرح بإشراق منظره، فيما الضبخان مستمر فى تلويثه لواجهات الأبنية وصدور البشر. فما العمل؟

تبييض واجهات أبنية وسط القاهرة عمل جميل لكنه قصير العمر وغير مستدام سرعان ما ينطمس بقتامة الضبخان

للإجابة عن هذا السؤال، أُورِدُ موجزاً لأسلوب أكثر استدامة تبنته العاصمة المكسيكية «مكسيكو سيتى» لمحاربة ضبخانها الذى يشبه ضبخان القاهرة، وهو حل لا أقول بأنه نهائى أو قاطع مانع لهذا النوع من التلوث الفاضح والمفضوح، ولكنه اقتراح يتوخَّى الاستدامة ويدعو إلى التفكير، ويشير إلى أن جَعبة «العلم» لا تخلو من الحيل لمواجهة تحايُلات تلوث البيئة. هذا الاقتراح يُسمُّونه «الأبنية المُلتهِمة للضبخان» Smog-Eating Buildings، ويتلخص فى تغطية واجهات البنايات بما يشبه ستائر معمارية جمالية عملاقة، من مشبكات غير مانعة للتهوية أو حاجبة للضوء، تدمر الضباب الدخانى أولاً بأول فلا يترسب مسوداً واجهات الأبنية ولا يتمادى مترسباً فى الحويصلات الهوائية داخل الرئات، وهذا التدمير للضبخان هو تفاعل كيميائى تنجزه مادة كيميائية تغلف هذه الستائر هى ثانى أكسيد التيتانيوم بمعاونة ضوء الشمس، الذى حبانا الله بالكثير منه، كما المكسيك، بل أكثر!

مستشفى «مانويل جونزاليس» فى مكسيكوسيتى وعلى واجهته الستارة المعمارية المُبطِلة لتكوين الضبخان بتحييد عوادم السيارات

ثانى أكسيد التيتانيوم هذا titanium dioxid، هو مادة ليست نادرة ولا مُكلفة، فهى معروفة منذ عقود كأُكسيد يتكون طبيعياً على هيئة بودرة ويكثر استخدامه فى الكريمات الواقية من الشمس وفى الدهانات وملونات الطعام، وبالنسبة للكيمائيين يُعتَبَر مادة ذات سلوك مميز عند تعرضها لضوء الشمس حيث تعمل كمُحفِّز لتفاعل يُهشِّم الملوِّثات العضوية المُشاركة فى تكوين الضبخان وأشهرها عوادم السيارات، كما أن هذه المادة تمنح السطوح التى تغطيها نعومة وقدرة عالية على جذب البلل من بخار الماء فى الجو، فهى بعد أن تحفز تهشيم روابط الضبخان المتطاير فى الهواء، تمنع التصاق هشيمه على السطوح التى تُغلِّفها وتُجمِّعه فى البلل الذى يسهل إزالته ليترك هذه السطوح بيضاء ناعمة، تواصل مكافحتها لكل ضبخان جديد!

هذا الأساس العلمى لفرادة عمل ثانى أكسيد التيتانيوم كان القاعدة التى على أساسها تم ابتكار دهانات وسطوح مكافحة للتلوث بالضباب الدخانى، واضطلعت أكثر من شركة عالمية بتقديم منتجات صناعية تُستخدم فى هذا الغرض، وكان أن اختارت المكسيك نوعاً من الستائر المعمارية الشبكية المغطاة بمادة ثانى أكسيد التيتانيوم لتُدرِّع بها بعض واجهات أبنيتها التى سودها ويستمر فى تسويدها الضبخان، وكانت واجهة مستشفى «مانويل جونزاليس» فى قلب مكسيكو سيتى النموذج الأشهر لذلك، ويُقدَّر أن ستارة واجهتها تُبطِل التأثير الضار لعوادم آلاف السيارات المارة بها يومياً. وعلى غرار هذه الستائر أقامت المكسيك تشكيلات فنية فى بعض الشوارع والميادين تجمع بين هدف تجميل الأماكن وتطهير الجو.

مقطع من الستارة المعمارية التى تستخدمها المكسيك ضمن محاولاتها لمكافحة التلوث بطرق مستدامة

هذا الحل الذى اعتمدته المكسيك ضمن حلول عديدة جِذرية لمواجهة تلويث الضبخان لجوِّ عاصمتها وواجهات أبنيتها، لاشك يتضمن بعضاً من مفهوم «الاستدامة» مقارنة بطلاء واجهات أبنية وسط القاهرة، والذى يخلو من أى تفاعل مضاد لتكوين الضبخان ومنع ترسيبه وتسهيل إزالته، مما يعنى مع استمرار انبعاث عوادم جحافل السيارات المتدفقة عبر شوارع وسط البلد على حاله، أن الدهانات الجديدة المشرقة على بقايا الأبنية البديعة فى القاهرة الخديوية سرعان ما ستسود مثقلة بقذارة ضبخان جديد يُشير إلى مأساة موازية وغير منظورة داخل صدور البشر. ولا تعنى هذه المقارنة أن الحل المكسيكى للضبخان هو المثال النهائى لمواجهة تلك المشكلة، لكن المعنى هو أهمية التفكير فى حلول تتسم بالابتكار، وبالاستدامة التى تغوص نحو الأصول والجذور وتتطلع إلى المستقبل الأبعد، وهى بحسابات الاقتصاد والسياسة والصحة والمظهر الجمالى، أقل تكلفة على المدى الطويل، وأكثر حِفاظاً على المال العام. كما أنها أدعى لزيادة ثقة الناس فى حُكم بلدٍ يخوض حرب وجود بالفعل، ليس مع خفافيش الإعتام المَحلِّى وضباع الإجرام الدولى فقط، بل مع واقع عسير، يتطلب أقصى الاجتهاد والابتكار والإقدام فى حل مشاكله المزمنة، باستبصار ثاقب الرؤى، وليس باستسهال شكلى قديم، ثبت عماه، وأذاه!