أهديكم اليوم هذه القصة الإنسانية البديعة للمهندس طارق الصيفى.
....................
«خليل». كان أحد الوجوه التى قابلتها فى حياتى. مجرد عامل بسيط رقيق الجسم والوجه والحال. مساعد ميكانيكى بالرغم من أنه كان قد جاوز الأربعين وقتها. وكان يجب أن يكون مشرفا على الأقل ولم يكن يهتم بهذه الأشياء. فى الحقيقة أنه لم يكن يهتم بشىء من الأساس.
كان زملاؤه يسخرون منه ويتفكهون بالضحك عليه ويتهمونه بالهبل وكان هو لا يتأخر عن عمل ما يطلبونه منه مهما كان شاقا وغير منطقى. مرة أرسله أحدهم لشراء علبة سجائر من محل على بعد 25 كيلو مترا بحجة أن السجائر هناك طازجة! وذهب خليل بالفعل ولم يتأخر.
نوادر خليل لا تنتهى أبدا. لم أره طيلة أربع سنوات كاملة إلا ضاحكا. يغنى بصوت عال فى أى وقت يروق له، يبدأ بالتحية من لا يعرفهم. سعيدا طوال الوقت وراضيا بكل شيء. سعادة من ذلك النوع الذى يتوهج فى العينين حتى يملأ الوجه. وحينما يرانى يصر أن يدعونى على حسابه على شاى. وكنت أقبل مرة وأرفض مرات حتى لا أكسر خاطره.
رأيته يوما يكلم السماء ويضحك. داعبته: «ما تضحكنى معاك يا خليل». قال: «أصل الشمس حلوة أوى النهارده». يا ربى حتى الشمس يحبها ويغازلها.
شاهدته يشترى علبة لبن لقطة وأولادها وهو يضحك. وهو نفسه- ربما- لم يشرب لبنا منذ عام. وكان- وهو خالى الوفاض- يأخذ الجلابية للتنظيف والكى فى المغسلة، وليس فى البيت، ويلمع حذاءه ويخرج سعيدا يغنى بصوت عال.
كان مريضا بالكبد ويتم حجزه بالمستشفى الحكومى وينام على الأرض أياما لعدم وجود أسرة ويخرج أسوأ مما دخل وتسأله عن أحواله فيقول لك: «أنا تمام بس الدكاترة مش عارفين يعالجونى».
شاهدته حزينا تحت شجرة ضخمة فى الشركة ويقول للكل إن الشجرة تبكى!! وطبعا لم يصدقه أحد.
فى هذا اليوم دخل مكتبى وهو يبتسم كالعادة ومعه ورقة بها طلب سلفة مبلغ بسيط من الشركة وسألنى أن أوصلها لأصحاب القرار. قال إن الحجرة التى يعيش فيها مع زوجته وأولاده الثلاثة طوب أحمر وتتسبب فى مرض أبنائه بأمراض صدريه نتيجة للرطوبة، وهو يريد أن يضيف إليها طبقة أسمنت (محارة) لتحسين «الثلاجة» التى يعيشون داخلها حسب لفظه. أخذت الطلب وذهبت للمدير الذى رفضه كما توقعت بعد محاضرة عن قوانين الشركة وكسل العمال، ونزلت لأخبره ناويا أن أعطيه المبلغ من جيبى ولكن كان ميعاد الانصراف قد حان وانصرف. وقلت لنفسى إننى سأخبره فى الصباح التالى.
لكن فى الصباح جاءنى الخبر بأن خليل مات! صدمته سيارة أثناء خروجه من الشركة ومات هكذا فى هدوء وبمنتهى البساطة. لحظتها أيقنت أن الله تعالى لم يرد لهذا القلب الصافى الرقيق أن يستمر فى هذه الحياة الطاحنة القاسية فاسترد وديعته.
ما حدث بعدها مذهل. فى اليوم نفسه، وبسبب التوسعات فى الشركة قام ونش عملاق بشد شجرة «خليل» فبدأت الشجرة تتكسر وتخرج سوائلها. وبكى الجميع وتذكروا قول خليل إن الشجرة تبكى!
مات خليل ولكنه عاش سعيدا من كله قلبه. لم يرزقه الله المال أو الصحة أو العقل اللامع ولكنه رزقه ما هو أفضل من هذا كله: السعادة.
أعلم أننى سأقابله فى العالم الآخرة، وقتها سأقول له: «لقد كنت يا خليل أغنى رجل رأيته فى حياتى».