كثر الحديث أخيرا فى الخطاب الإعلامى، بل عقدت المؤتمرات، عن تجديد الخطاب الدينى إثر طلب الرئيس ذلك كوسيلة لمناهضة الإرهاب وردع الشباب وإيقافه نحو الجماعات المتطرفة التى استفحل أمرها أخيرا حتى استولت على نصف العراق والشام، وفى طريقها إلى تكوين دولة بديلة عن الدولة العربية، والعودة إلى الخلافة الإسلامية الرشيدة المنتصرة دائما والموحدة فى كيان واحد قادر على الوقوف فى مواجهة أعداء المسلمين اليوم. ودخل كل المتخصصين وغير المتخصصين فى الموضوع ليدلى بدلوه دون تحديد معنى العبارة «تجديد الخطاب الدينى». ماذا يعنى «تجديد»؟ وما الفرق بينه وبين «تحديث»؟ وماذا يعنى الخطاب؟ وما الفرق بينه وبين القول؟ وماذا يعنى الدينى؟ هل هو العقائد أم الشعائر؟ وهل العبادات أم المعاملات؟ هل هو خطاب العامة أم خطاب الخاصة؟ الخطاب التداولى أم خطاب العلماء؟ وهل هو الخطاب الدينى الإعلامى الأكثر تأثيرا على الناس أم الخطاب العلمى الحامل للتراث القديم وعلومه؟ هل هو الخطاب الإعلامى الذى تحول فيه الدين إلى «بيزنس» يروج لبعض المنتجات أو بعض النظم السياسية، ينقصه صدق القائل، وتصديق المقول؟ وأحيانا يكون أقل من ذلك، مجرد منافسة بين مذهبين أو طائفتين، وكل منهما تعبير عن عصره؟ ومن كثرة تشعب الخطاب الإسلامى القديم وتعدد أهوائه وأغراضه حدث رد فعل إلى الخطاب الإسلامى القديم وكأنه خال من الأهواء. فالخطاب الدينى هو الحامل لرغبات العصر بطوائفه ومذاهبه وتعدد أغراضه أو الاستمرار فى تكرار الخطاب الإصلاحى الأكثر أمانا بين القديم والجديد. يخشى أنصار القديم الذهاب إلى الجديد فالقديم أكثر أمانا وأكثر قبولا عند الناس.
وإذا كان الخطاب يتكون من ثلاثة مستويات: اللغة، والفكر، والشىء الذى يُشار إليه، فتجديد الخطاب يعنى أولا تجديد اللغة عن طريق الانتقال من جانبها الثابت إلى جانبها المتحرك، من الحقيقة إلى المجاز، ومن الظاهر إلى المؤول من أجل تجنب الوقوع فى الحرفية خاصة بأمور المعاد. فالجنة والنار نعيم وعذاب إلى آخر ثنائيات الآخرة. وهو ما قام به الفلاسفة من قبل. ويتجنب العلماء الآن الوقوع فى الحشوية أى وضع مادة فى الآيات. وبدلا من التفسير الحرفى للآيات يمكن التحول إلى لحن الخطاب وفحوى الخطاب. فالخطاب ليس باللفظ وحده ولكن أيضا بالإشارة. وقد استعمل الأنبياء هذه اللغة فى فهم الوحى. وعيب الخطاب السلفى الحالى هو الوقوع فى التفسير الحرفى للعقائد والعبادات والمعاملات. واللغة بداية التكوين الشعرى للآيات لدى قوم ثقافتهم الشعر قبل الدين. ويعتمد على الصورة الفنية فى الإقناع على عكس ما حدث فى عصرنا من استبعاد مدرسة التصوير الفنى. فالملاك والشيطان هما الخير والشر، والحسن والقبح من القرآن. وعذاب القبر ونعيمه هما عذاب الضمير وراحته.
والخطاب لفظ ومعنى. ومجموعة الألفاظ هى مجموعة المعانى أى الأفكار. فالأجزاء تكوّن الكل. وبظهور الشىء الذى يشير إليه اللفظ تكتمل عناصر القياس الأربعة: الأصل، الفرع، العلة، الحكم. وتـُعرف علة الفرع بالتجربة. فإذا ما تشابهت علة الأصل التى تعرف بالاستنباط وعلة الفرع التى تعرف بالاستقراء اكتمل القياس بتعدية الحكم من الأصل إلى الفرع لتشابه بينهما فى العلة، هكذا يكون تجديد الخطاب الدينى، وإعادة تحديد معنى الكفر والإيمان وتحديد من هو المؤمن ومن هو الكافر، ليس عن طريق العقائد أو الشعائر بل عن طريق المنفعة والضرر.
ويكون التجديد أيضا عن طريق التركيز على مقاصد الشريعة والتى من أجلها وضعت الشريعة. وضع الشريعة ابتداء أى الأسباب الأولى التى من أجلها وضعت. وهى المحافظة على الحياة ضد المرض والانتحار وحوادث الطريق والإعدام. حتى القصاص لا يتم إلا بعد الدية أو العفو من أهل القتيل «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِى الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ». والعقل أى العلم ضد الجهل والأمية. فأول آية فى القرآن «اقْرَأْ» تدعو إلى القراءة، والدين أى الحق المطلق الذى لا نسبة فيه. يتطور ثم يكتمل. والعرض أى الشرف والكرامة وحقوق الإنسان. والمال أى الثروة الوطنية وتنميتها. هذه المقاصد الشرعية الخمسة هى مضمون الخطاب الدينى بدلا من الغيبيات الظنية التى تثير الخيال أكثر مما تدفع العقل إلى التفكير. وقد سمى القدماء حقوق الإنسان حقوق الآدمى فى مقابل تكليفاته، فلا واجبات بلا حقوق. والفكر الدينى المسموع يركز على الواجبات دون الحقوق.
ويكون تجديد الخطاب الدينى عن طريق انفتاحه على العالم وليس انغلاقه بمزيد من المحرمات. وما لم ينزل فيه حكم بالتحريم يكون على البراءة الأصلية. والخطاب الدينى الحالى قائم على التحريم. وأصبح المسلمون مثل بنى إسرائيل يسألون عن أشياء سكت عنها الشرع فيأتى الحكم بالتحريم. والحكم الطبيعى هو حكم بالبراءة فالأشياء فى الأصل على الإباحية. والمندوب والمكروه حكمان متروكان لحرية الإنسان إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. ولا يوجد حكم بالوجوب إيجابا أم سلبا إلا اثنين، الواجب والمحرم. ويتحول السلب إلى إيجاب فى لحظات الضرورة. فالضرورات تبيح المحظورات.
والأحكام الفقهية متعددة لأن الحق متعدد. فلا استبعاد ولا تكفير لأحد. والخطأ له أجر، والصواب له أجران. وتتعدد المذاهب الفقهية دون تكفير أى أحد منها. لا فى العقائد ولا فى الأحكام الشرعية. والاتهام بالخروج تهمة سياسية وليست فقهية. فالتكفير الحديث إنما ينهل من فصول التكفير فى فصول الفقه القديم. وقد كان التكفير عند القدماء نقطة قوة مثل السلاح. أما اليوم فهو نقطة ضعف لأنه نيل من حقوق الإنسان. كان مضمون التكفير قديما مسائل نظرية مثل قدم العالم وخلود النفس، وإنكار الإيمان بالله والوحى واليوم الآخر والنبوة والبعث. أما الكذب والنفاق فهما من الأفعال الخلقية. واليوم الإيمان بالأمور العملية مثل الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. هذا هو مضمون الخطاب الدينى وما تحتاجه الأمة وإلا كان خطابا فارغا بلا مضمون. ومضمون الخطاب الدينى القديم بالنسبة للعصر مضمون مغترب يُستغل للتعمية والتغطية على الواقع الاجتماعى. لذلك قامت ثورة يناير 2011 على ما يجب أن يكون عليه الخطاب الدينى، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولقد أتى الإسلام أول مرة انقلابا فى منظومة القيم الاجتماعية مثل العبودية واللامساواة والقبلية. واليوم إن لم يمتلئ الخطاب الدينى بالمضمون الاجتماعى والسياسى، الحرية والاستقلال والوحدة والتنمية فإنه يكون خطابا دينيا فارغا من غير مضمون أو يكون خطابا دينيا مغتربا. ويكون تجديد الخطاب الدينى فى هذه الحالة بالقضاء على اغترابه. وتكون الدعوة إلى الفصل بين الدين والسياسة إمعانا فى الاغتراب لأنه لم يبق للخطاب الدينى إلا الغيبيات التى يصعب البرهنة عليها. والإيمان هو البرهان.