كالعروس التى تتهرب من إتمام زيجة مجبرة عليها بأمر أهلها، فتخلق أعذاراً واهية حتى لا تصل إلى عش أو قفص الزوجية الذى سيقيد حريتها ويفرض عليها أجوبة تفصيلية عن أسئله سخيفة من عينة «كنتى فين، ورايحة فين، وبتعملى إيه دلوقتى، وإزاى ماعملتيش كده..».. تتملص الحكومة من إتمام الانتخابات حتى لا تدخل قفص البرلمان.
فلا عجب أننا صرنا نسمع فى كل يوم أكثر أعذار العالم خيالية فى مبررات الحكومة لعدم إجراء الانتخابات منذ عام كامل وحتى إشعار آخر.. منحت خلالها للجنة صياغة وتعديل قوانين الانتخابات دور المأذون الذى أقسم إن الجوازة دى «لا ممكن تتم أبدا».
فنجد قوانين الانتخابات تدخل اللجنة ولا تخرج منها، وإن خرجت تعود إليها سريعا لعوارها الدستورى، وما إن تدخل حتى لا تخرج منها أبدا، فلا تدرى من تسأل.
فالرئيس يؤكد حرصه على إجراء الانتخابات بأسرع وقت منذ عام كامل، ولكن هذا لم يتحقق، والحكومة تؤكد فى كل يوم أن لا شىء يشغلها سوى إجراء الانتخابات، ثم لا تأخذ أى إجراء فعلى فى هذا الاتجاه. ولجنة تعديل قوانين الانتخابات تؤكد فى كل يوم منذ عام ونصف أن هدفها الوحيد فى الحياة هو إجراء الانتخابات. وبعد هذا لا نرى انتخابات، ولا أحد يدرى متى سنرى برلمانا.
ليصبح التساؤل الذى لا مفر منه: هل تريد الدولة فعلا برلماناً أم لا؟
وهل أصبحت الحكومة تفضل أن تراقب نفسها بنفسها، وتحاسب نفسها بنفسها، وتحذر نفسها بنفسها، ثم نرى من يتعجب أنه ومنذ ٢٥ يناير إننا محلك سر وندور حول أنفسنا ولا نتقدم خطوة للأمام، إن لم نكن قد تراجعنا خطوات للخلف، أى لا نمارس طبقا لمصطلحات يفهمها العسكريون سوى «خطوة تنظيم فى مكانك أو حركة للخلف در».
يقول ابن رشد- وفى أقوال أخرى المؤرخ الإنجليزى لورد أكتون- إذا كانت السلطة مفسدة، فإن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وطبقا لهذه المقولة فمهما صلحت النيات والمقاصد والقلوب والمسارات لشخص لا يستطيع أن يقوم بالجمع بين السلطة التنفيذية والتشريعية وينجح... هل يستطيع شخص أو نظام أو حكومة أن تراقب وتحاسب نفسها دون أن تقع فى شبهاتٍ، أقلها المجاملة أو (الصهينة) أو عدم الشفافية، وأكثرها الإفساد.. فنحن بشر، محكومون بالصواب والخطأ.. من فينا يستطيع أن يخرج بعيدا عن ذاته ويستطيع أن يراها بعين الناقد، فيرى عيوبه وأخطاءه، وحتى لو رآها، من فينا لن يُرضى سريرته بمبررات عظيمة لارتكابه هذا الخطأ أو ذاك الجرم.. ولإدراك الإنسان ذلك فقد خلق النظم الديمقراطية، فى محاولة منه لإدارة شؤون الأوطان بأقل الأخطاء الممكنة، وبطريقة تكفل تصحيح المسار إذا انحرف.
ويفسر الأمر أكثر عندما ندرك أن البرلمان لم يغب عن الحياة المصرية مثل هذه المدة الطويلة منذ إنشائه.. فهو غائب لأكثر من أربع سنوات، توالى على حكم البلاد أربعة رؤوس للدولة (المجلس العسكرى، ثم الإخوان، ثم الرئيس عدلى منصور، وأخيرا الرئيس السيسى)، وكلهم جمعوا السلطتين التنفيذية والتشريعية فى أيديهم، باستثناء فترة بسيطة انتخب فيها برلمان وقد حل سريعا بحكم قضائى. ومع ذلك، يوجد من يندهش أننا نواجه صعوبات كبيرة لإقناع العالم الغربى بسلامة مسارنا الديمقراطى، فى بلدٍ لا يحوى برلمانا يحاسب الحكومة ويراقبها.. وأتصور أننا لو كنا قد أنجزنا الانتخابات البرلمانية بعد الانتخابات الرئاسية مباشرة ما ظلت أنظمة غربية أو مؤسسات دولية- بعضها لا يدور فى فلك المؤامرة على مصر- تجد الذرائع، مثل عدم وجود برلمان، للتطاول علينا ورمينا بالاتهامات الباطلة، لأنه ببساطة ودون مواربة فإن جُلّ اتهاماتهم تنحصر فى الحريات وضماناتها والتحول الديمقراطى ومساراته.. والبرلمان كفيل بسد ذرائعهم بنسبة كبيرة، فمثلا قانون التظاهر الذى صدر فى غيبة المجلس، ماذا لو عُرض عليه فعُدّل فى بعض مواده أو حتى أقره كما هو.. هل يستطيع فى الحالتين أن يزايد أحد على ممثلى الأمة المنتخبين ديمقراطيا؟ قضايا انتهاك حقوق الإنسان سيتصدى لها المجلس ويكشف حقيقتها.. إن كانت صحيحة سيحاسب، وإن كانت دعايات مغرضة وقف العالم على صحتها.. وغيره وغيره من الأمثلة التى إن تصدى لها مجلس نواب منتخب فلن يستطيع أحد فتح فمه بالتجنى.. حتى شرعية الرئيس السيسى نفسه، والتى لا تحتاج لإثبات ولا ينكرها إلا جاحد أو كاره، كانت ستتأصل أكثر من خلال مجلس منتخب من شعب سيد اختار نوابا له وشهد العالم بديمقراطيتها، فعندما يؤازر هذا المجلس الرئيس فى القضايا الوطنية الكبرى وسياساته وتوجهاته فيها ينتفى لدى المشككين سمهم الزعاف عندما يتحدثون بأنه لم يأت بانتخابات ديمقراطية وبإرادة شعبية كاسحة.
إن من طبائع الأمور أن القوانين عندما نريد لها أن تولد لتعيش فلابد لها من مسار طبيعى.. تناقش على مرأى ومسمع من الناس، والجميع يضع حسابات عندما يدلو بدلوه فيها، سواء كانت الحكومة هى من اقترحت فتتحسب أو كانت من مجموعة من النواب فيغزلون كلماتهم ومنطقهم خوفا من ناخب قد يطيح بمقاعدهم إذا لم يحسن الإقناع، بل يتعرض القانون لضغوط من قوى مجتمعية ليست بالضرورة مصالحها متصالحة، فلابد عندئذ أن يخرج متوازنا محققا مصالح الجميع.. فالقانون تحت الضوء الكاشف تظهر عيوبه قبل أن يصدر، ومن الممكن تصحيح بعض بنوده قبل أن ينزل للأرض ويحدث كوارث، أما القانون الذى يولد فى غرف مغلقة فهو أشبه بالولادة غير الطبيعية، التى فى أكثر الأحوال ينتج عنها وليد مشوه، وليس أدل على ذلك من هذا القانون الأخير الخاص بانتخابات البرلمان الذى أصدره الرئيس عدلى منصور، وتعالت أصوات- وكنت أنا منهم- تحذر من عدم دستورية بعض مواد القانون، وقوبلنا باستهزاء.. «بقى هاتفهموا أكتر من رئيس سابق للمحكمة الدستورية»، وعندما بدّل موقعه من رئيس جمهورية يملك حق التشريع وعاد رئيسا للمحكمة الدستورية المنوط بها البحث فى مدى دستورية القوانين، قام بإسقاطه والحكم بأنه غير دستورى، ناهيك عن قوانين أخرى وما نتج عنها من ارتباك وإحراج للرئيس وحكومته.
ولأذكركم أنه قد مرّ على إقرار الدستور عام ونصف العام تقريبا، ومازالت لجنة الإصلاح التشريعى عاجزة عن إخراج قانون انتخابات حتى الآن، رغم أن لجنة الخمسين التى صاغت الدستور كانت تستشعر خطرا من تأخير الانتخابات، فألزمت الدولة بإجرائها بعد ستة أشهر على الأكثر من نهاية انتخابات الرئاسة، ليتم الالتفاف على هذا النص الواضح، بدعوى أن المادة قد نصت على بداية الإجراءات وليس نهايتها، فخرج القرار الجمهورى قبل نفاد المدة بتشكيل اللجنة العليا للانتخابات، واعتبر أن ذلك هو بداية الإجراءات. رغم أنك ستجد نية المشرع الدستورى كانت واضحة جلية فى إجرائها بالفعل بعد ستة أشهر على الأكثر، كى تكتمل مؤسسات الدولة، ولا نترك السلطة التنفيذية والتشريعية فى يد واحدة لمدة طويلة حتى لا تصير مفسدة مطلقة.
وإذا كانت لنا أعذار فى عدم وجود برلمان منذ يناير ٢٠١١ حتى وصول الرئيس السيسى للسلطة.. فلا أستطيع أن أفهم أى أعذار قد عطلت ومازالت تعطل وجود هذا البرلمان.
أما آخر مبررات تأجيل الانتخابات فقد رمته الحكومة فى ملعب القضاة، بما يستوجب علينا الانتظار لنهاية العام بدعوى الإجازة القضائية.
الواقع يقول إن الجميع يتحمل مسؤولية عدم وجود برلمان: الرئيس السيسى، وحكومته، ومؤسساته، وحتى الأحزاب. وأخيرا، أضيف إليهم القضاة، ولكن أكثر من يدفع ثمن هذا التأخير هو المواطن الغلبان الحائر بين قوانين تنتمى لنظام قديم، وإجراءات حكومية جديدة غير مدروسة تتعارض مع هذه القوانين، والاثنان يُطبقان عليه فى ذات الوقت، (مثال على الماشى) الدولة تسمح لمخالفى قانون البناء بتوصيل المرافق كالمياه والكهرباء فى ذات الوقت الذى تقوم الدولة فيه أيضا بإزالات لنفس المبانى بعد دفع المواطن دم قلبه فى رسوم توصيل هذه المرافق، وكأننا أمام دولتين.
وفئران الشك فى نفوس المصريين من جدية الدولة فى إجراء الانتخابات صارت أسودا.
ولأن المسؤول الأول عن إتمام الاستحقاق الديمقراطى الثالث هو رئيس الجمهورية، مهما وضعوا أمامه من عراقيل.. فإننى أطالب الرئيس السيسى بأن يدعو لإجراء الانتخابات بأسرع وقت ممكن، بإجراءات فعلية على الأرض. كما أدعوه لإفهام مؤسساته التى ترفع له تقارير تبين خطورة أو أضرار الإسراع بالانتخابات، متعللين كل يوم بعذر وهم فى الحقيقة سواء بقصدية إيقاف قرارات بعينها قد تنتقص من امتيازات قد حصلوا عليها نتاج ظروف طارئة قد مرت بها البلاد.. أو إملاء لما يدور بعقلهم الباطن الخائف من الرقابة والمحاسبة «بلا وجع دماغ»..
على الرئيس أن يُفهمهم- وإن دعت الضرورة أن يلجمهم- خطورة هذا الفراغ وتداعياته المؤسفة لعدم اكتمال مؤسسات الدولة.
وأدعو القضاة على الجانب الآخر أن يعيدوا الكرة إلى ملعب الحكومة، وأن يكملوا مسيرة عطائهم اللامتناهية لهذا الوطن بالإعلان عن استعدادهم لإجراء الانتخابات فى أى وقت حتى لو استقطع هذا الوقت من إجازاتهم. فالوطن بالتأكيد يستحق.. وماذا تمثل بضعة أيام فى عمرهم فى ذات الوقت الذى دفع فيه زملاء لهم حياتهم فداءً للوطن؟!
وأخيرا.. أدعو الحكومة لأن تثبت أنها غير خائفة من قفص الزوجية ومستعدة لأن تمتثل لتوجيهات زوجها طالما أنه لا يطلب منها ما يخالف شرع الله، أم أنها «استحلت المشى على حل شعرها»؟!