للإخوان، كتنظيم، تاريخ صلاحية وانتهاء.
لكن لا أحد يريد أن ينظر للجماعة من منظور التاريخ الأوسع. حيث قامت ممالك وانهارت ممالك، نشأت أديان ومذاهب وفرق وأفكار واندثرت لصالح أخرى، ظهرت جماعات واختفت، حدث كل شيء على ظهر الكوكب، بدءًا من دبيب أقدام الديناصورات وصولا لهدير محركات السيارة «لامبورجيني».
كان السؤال الأبرز الذي يتردد في أذهان الباحثين والمتابعين لشؤون التيارات الإسلامية عام 2008 بمناسبة مرور 80 عامًا على نشأة الإخوان، هو لماذا لم يتبعثر الإخوان؟ لماذا لم ينشقوا على أنفسهم لفرق وجماعات وأحزاب أصغر؟ لماذا لم يتناحروا؟ لماذا بقي التنظيم عصيًا على سنن الحياة؟
لم يكن أحد يأخذ انسحاب مجموعة جيل الوسط في منتصف التسعينيات من تحت مظلة الجماعة، مأخذ الجد بوصفه مثالًا دالا على انشقاق جرى في التنظيم. فلا المنسحبون مثلوا قيمة رقمية أو قيمية بعينها من تاريخ الجماعة، ولا الجماعة تأثرت بمفارقتهم.
توالت التحقيقات عن التماسك التنظيمي الصلب الذي اجتث منذ البداية كل بذور محاولات شق الصف، وظلت قبضة التنظيم الحديدية تعلي قيمة «الجماعة وتماسكها» على أي قيمة أخرى، حتى ولو هلك أفراد الجماعة.. فالأهم –دوما ما كان- أن يظل التنظيم تنظيما!
قبيل ثورة يناير بخمس سنوات تقريبًا، أخذت الخلافات الجيلية داخل جسم التنظيم تعرف طريقها لصفحات الجرائد وأروقة المدونات على الفضاء الإليكتروني، وبدا جليًا أن الخلاف بين جيل الشباب والأجيال الأكبر سنا داخل الجماعة، لم يعد ممكنًا احتواؤه دون تنازل واسع من أحد الطرفين.
توازى غضب الشباب داخل التنظيم على القيادات القديمة، مع الغضب العام على نظام مبارك آنذاك، وبدا أن شباب الإخوان متأثرين –لدرجة لا تنكر- بمحيطهم العام، إلى حد نقله بإحداثياته داخل عالمهم الصغير..«التنظيم».
وفي عالم الانترنت حيث كل شيء مباح، راحت تتسرب القصص والنوادر عن خلافات الأجيال وعن رغبة الجيل الأصغر في التغيير. وربما يحضرني هنا قصة «الأخ» الذي أحيل للتحقيق بسبب استخدام «الماسنجر» دون استئذان مسؤوله التنظيمي!
كان الأمر عبثيا إلى حد لا يوصف، وفيما كان التاريخ يأخذ مجراه في جسم الإخوان، ليفعل فعله ويترك أثره، قامت بغتة ثورة يناير، ليولى الجميع نظره شطر قبلة أخرى.
ومع تغيير كاسح اجتاح مصر بأكملها، تجمدت الخلافات قليلًا لينظر الجميع ماذا سيحدث بعد يوم القيامة الذي قام في مصر في يناير 2011.
وصل الإخوان للحكم، فانتعشت الآمال التي لم تكن تحلم بعُشر ما تحقق، وتكاتف التنظيم –إلا قليلا- ليتدبر الواقع الجديد.
لم تمر سنة، حتى أطيح بالجماعة من الحكم، ولم يمر شهران حتى جرت مجزرة رابعة.
وحدت المحنة والمآساة أبناء الجماعة، والتحق بها من تركوها بعد الثورة مباشرة، واستردت «العائلة» احتشادها وتماسكها وإصرارها مرة أخرى لما انطلق هزيم المدافع ضد التنظيم، اعتقالا ومطادرة وتشريدا.
لكن بعد عامين من الاستهلاك في معارك كثيرة، وبعدما اتضح تماما أن «الانقلاب» لا يترنح، وأن السيسي يمضي قدما في زياراته الخارجية وأن المحيطين الداخلي والخارجي لا يكنان تعاطفًا يذكر للتنظيم، انفتح باب التساؤلات الوجودية المؤجلة.
وكان طبيعيا أن يتم ترجمة الأسئلة المؤجلة في أول لحظة مناسبة لالتقاط الأنفاس، إلى مثل هذا التصدع والانشقاق الذي رأيناه على مدار الأيام القليلة الماضية في محاولة محمود غزلان ومحمود حسين، تنصيب محمود عزت مرشدًا عاما للجماعة، وما استتبعه من انقسام التنظيم لفريقين متصارعين.
انقسم الإخوان، وانقسمت النوافذ الإعلامية التابعة لهم حيال ما جرى، وبدا أن هناك زلزالًا يجتاح الجماعة من قواعدها لقياداتها.
برأيي، ينطوي الأمر على خلافات سياسية وجيلية وتنظيمية أعمق مما تبدو عليه، فالأسئلة المرجأة طرحت نفسها على غير هدى ليصطدم التنظيم بواقعه المأزوم، وبكل المسكوت عنه على مدار عقود.
حكمت الدولة الأموية قرابة قرن من الزمان، فيما مكثت العباسية أكثر من ضعفي المدة، ثم زالتا كلتاهما!
التنظيم ليس أقوى من دول حكمت وبسطت نفوذها وهيمنتها، وتبلورت على هامشها مذاهب مؤيدة وتكون لها أنصار ودعاة وشعراء وشبكة عملاقة من المصالح ارتبطت بوجودها.
وستجري سنة الحياة على الإخوان، بمنظور التاريخ الأوسع، الذي هضم أمما وممالك وأفكارا.
سيما بعدما تضاءلت طموحات الأفراد من أستاذية العالم لأستاذية مكتب الإرشاد.