يؤلمُنى أن تُزعجَ كلماتى بعض أحبابى، وكل المصريين أحبابى. أعلمُ أن النفس البشرية مفطورةٌ على حب الكلمات الطرية المعسولة المدهونة الملونة، وأعلم أن الكبار يأنفون من العبارة الحادة والكلمة الجارحة والتعبير الصريح، ولكن ليس هُناك من بديل إلا أن نواصل مسيرة الأمل الكبير، إصراراً على الهدف، واستكمالاً للطريق، بعقول تنزهت عن ضلالها القديم، وبقلوب تجردت من هواها الدفين، وبإرادة لا تصدر إلا عن الخير المحض والحب المحض لهذا البلد وكل أبنائه، لسنا ننحاز لأحد إلا من كان على الحق، ولسنا ننحاز ضد أحد إلا مدفوعين بأطهر مقصد وأنبل غرض.
قادمون بإشراقة هذا الصباح الجميل الواثق من نفسه، نبسُطُ رداء الأمل على مرمى البصر، حتى نرى دولة مدنية - فى أجل قريب أو بعيد - على النموذج الأوروبى، الجيشُ فيها يحمى ولا يحكم، الجيش فيها يحرس ولا يملك، جيشٌ حديثٌ فى دولة حديثة.
حتى نرى دولة مدنية، تقودها طبقة سياسية متجددة الدماء، مؤهلة لقيادة البلد من المحليات إلى البرلمان إلى الوزارة إلى الرئاسة، طبقة لا تغسل الأموال، ولا تصنعها الأجهزة، وليست واجهة لشركة أو سفارة أجنبية.
حتى نرى دولة مدنية، تحترمُ الأديان من حرية الاعتقاد دون إكراه، إلى حرية العبادة دون نفاق، الوطنُ فيها للجميع والأديانُ فيها لله، يتحرر فيها الدينُ من سطوة الدولة، وتتنزه فيها الدولةُ عن توظيف الدين.
حتى نرى دولة مدنية، يُعالجُ فيها الرئيس فى المستشفيات الحكومية، ويتعلم فيها أبناء الحكام والأغنياء فى الجامعات الحكومية، وتتوافر فيها مرافق حكومية تحترم آدمية المواطن ولا تنتهكها، دولة تنتهى فيها الامتيازات الطبقية التى حلت مكان الامتيازات الأجنبية فى حقبة الاحتلال.
حتى نرى دولة مدنية، الحاكمُ فيها مواطن عادى، يدخل إلى موقعه بإرادة الناس، ويخرج من موقعه بإرادة الناس، ويكتسب احترامه من احترامه للدستور والقانون، دون تأليه فرعونى، ودون تسفيه أو إساءة لا تليق بمقام الرئاسة.
حتى نرى دولة مدنية، تتقلص فيها الفجوة بين القول والفعل وبين الظاهر والباطن، فأغلبُ من يملأون الفضاء العام فى مصر لا يستطيعون إثبات مصادر حلال ومشروعة لما راكموه من ثروات، مساحة اللصوصية أوسع مما نعتقد وتكتيكات الإثراء غير المحترم تفوق الخيال.
حتى نرى دولة مدنية، الاقتصاد فيها من شأن الناس فقط، هم أدرى بما ينفعهم، ويكفى الدولة أن تتولى التنظيم والتشريع والرقابة بما يكفل سلامة النشاط الاقتصادى وتمكين عموم المواطنين من الدخول إليه والاندماج فيه، فى منافسة لا يقتلها الاحتكار.
حتى نرى دولة مدنية، تكفلُ الشراكة بين مواطنيها فى اقتسام منافع وخيرات البلاد، تضمنُ لكل قادر على العمل وظيفة، ولكل عاطل تعويضاً حتى يعمل، تضمن لكل مريض علاجاً، تضمن لكل مُسن معاشاً وتأميناً.
حتى نرى دولة مدنية، لا تكون هى المنشأ الأصلى لكل فساد فى المجتمع، كما هو الحال عندنا حتى الآن، الدولةُ هى الطرف الأول فى فساد كل الأطراف التى أوغلت فى الفساد من كبار وصغار المسؤولين والموظفين إلى كبار وصغار رجال الأعمال، إلى كبار وصغار رجال الإعلام، بل كبار وصغار الدعاة إلى الله، إلى آخر قائمة كبار وصغار كل مجال فى مصر.
آخرُ الكلام: أعلم أن البون واسعٌ بين هذه الأحلام وهذا الواقع، أعلمُ أن البلد خضع لجراحتين كبيرتين فى فترة وجيزة، أعلمُ أن البلد وصل إلى ذروة الإرهاق والإنهاك خلال العقود الستة من الحقبة العسكرية الأولى، وأعلمُ أن البلد يخوض مواجهة فُرضت عليه بعد أن تأجلت ثمانية عقود مع مشروع الدولة الدينية - التوأم الروحى والفكرى لمشروع الدولة الاستبدادية فى الحقبة العسكرية الأولى، أعلمُ ذلك كله، لكن عندى يقينٌ - ليس كمثله يقين - أن الصُبْحَ قد تنفس أنفاس الأمل الكبير!