تناولت في العدد الماضى الحديث عن الـ«بر عنخ» وترجمته بيت الحياة وهو اسم أول مدرسة ومكتبة في تاريخ الإنسانية. وكانت مدرسة لتعلم الكتابة واللغة وجامعة لتعلم العلوم الدينية وعلوم الطب والرياضيات والفلك والجغرافيا وأكاديمية للفنون. أما التعليم الأساسى للكتابة فقد عرف له مبنى آخر مستقل عرفه المصرى القديم باسم «عت سبا» بمعنى مكان العلم أي المدرسة، وقد يبنى مستقلا أو يلحق بمعبدكما كان في معبدالرامسيوم في عصر الدولة الحديثة. وكلمة «سبا» بالمصرية القديمة تعنى أيضاً النجم، واشتق منه أيضاً لفظة المعلم «سباو» أي المرشد والهادى، وهى صفة عرفها المصرى القديم للنجوم.
كما عرفت أيضاً المدارس الملحقة بالإدارات الخاصة بالدولة لتعلم شؤون هذه الإدارات، وهى أشبه اليوم بالمدارس المهنية. وكذلك كان هناك مدارس ملحقة بالجيش لتعلم العلوم العسكرية بما فيها من تدريبات على فنون القتال واستعمال السلاح.
وعرفت مصر التعلم بالتوارث خاصة تعلم الحرف والصناعات فكانت تورث من الآباء إلى الأبناء ثم الأحفاد، وهو تعليم مهنى لا يشترط فيه تعلم الكتابة، وكان هذا أشهر وأشيع تعليم ليس في مصر فقط بل في أغلب حضارات العالم، واستمر هذا النمط من التعليم حتى الآن في كثير من الحرف كالنجارين والفخارين وغيرهم.
وكانت «عت سبا» المدرسة في دير المدينة، وهى قرية العمال والفنانين في طيبة الغربية والتى تعود لعصر الدولة الحديثة، من أشهر المدارس والتى كان يدرس فيها الكتبة للتلاميذ الكتابة والقراءة، وكان يلحق بها تلاميذ من فئات مختلفة من الشعب وكانوا يلتحقون بها في سن مبكرة ما بين خمس وعشر سنوات. وقد عثر في دير المدينة على العديد من شقفات الفخار وكسر الأحجار التي كانت تستخدم لتمرينات التلاميذ على الكتابة، وقد ظهر على بعضها تصويبات المدرسين لتلاميذهم. فكان التعلم أول الطريق للحصول على وظيفة لأفراد من عامة الشعب تساعدهم على أن يتبوءوا مكانة عالية في المجتمع المصرى.
أما أولاد الملوك والأمراء والنبلاء فكانوا يدرسون في مدارس ملحقة بالقصر الملكى يتعلمون فيها من الصبا للكبر ويتعلمون بالإضافة للقراءة والكتابة علوما دينية وأدبية، بالإضافة لعلوم الطب والرياضيات والفلك وما يرغبون من العلوم الأخرى.
ويصف الحكيم خيتى الذي عاش في عصر الدولة الوسطى حوالى 2000 ق.م. وهو يصاحب ابنه بيبى للذهاب إلى المدرسة، فضل التعليم ومكانة المتعلم وهو ينصح ابنه معددا مزايا مهنة الكاتب. وتعكس هذه الوصية رؤية خيتى لوظيفة الكاتب، وهى بصفة عامة تعكس الموقف الحقيقى لطبقة الكتبة نحو العمال اليدويين، إذ يقول: «أما الكاتب في أي وظيفة في العاصمة، فهو لا يعانى الفاقة في ذلك. عندما تستوفى العطاءات، فلا توجد وظيفة تفوق الكاتب، سأجعلك تحب الكتب أكثر من أي شىء، وأنا سأضع محاسنها أمامك. فوظيفة الكاتب تفوق أي منصب، ولا يوجد شىء مثلها على الأرض. فأنت قوى منذ بدأت التعلم في طفولتك، وهو ما يفضى إلى الاحترام».
وهنا يظهر خيتى لابنه أهمية التعليم وكيف أنه يكسب صاحبه قوة منذ أن يبدأ في تلقى العلم لما يكسبه لصاحبه من مهابة ووقار، وهو الطريق للترقى في السلك الوظيفى حتى يصل إلى أعلى الدرجات الوظيفية.
وكان العلم متاحا لمن يرغب من الشعب ولكل فئاته وللبنين كما للبنات، حتى حصلت المرأة المتعلمة على العديد من المناصب المهمة في الدولة فقد استطاعت الالتحاق بالإدارة، وحصلت على وظائف مثل الكاتبة وهى الوظيفة التي كانت تؤهل إلى مناصب حكومية عالية مثل وظيفة المحاسبة في القصر الفرعونى، والمديرة، ورئيسة الخزانة، ومراقبة المخازن الملكية، والمشرفة على غرفة الطعام، والمشرفة على الملابس، ومديرة قطاع الأقمشة، ومديرة الكهنة الجنائزيين، ومديرة النائحات، والمسؤولة عن الضياع الجنائزية، والمشرفة على الأجنحة السكنية الملكية، ومديرة الخزانة والمسؤولة عن جميع أملاك سيدها، ومديرة الأختام وأكثر حاملات هذه الوظيفة شهرة هي السيدة «ثات» وكانت وكيلة أملاك الحاكم «خنوم حتب الثانى» ببنى حسن من عصر الأسرة الثانية عشر حوالى 1950 ق.م. كما يتضح أيضاً من أسماء وألقاب السيدات، أنه كان منهن القاضية مثل السيدة «بنِتِ» زوجة حاكم أحد الأقاليم من عصر الأسرة السادسة، ولقب القاضية ووزيرة الملك، والطبيبة مثل «بسشت» من الأسرة الرابعة.
وتفتخر الحضارة المصرية بأنها صاحبة أول معلمة وعالمة جامعية في تاريخ البشرية، فكانت هيباتيا السكندرية (350-370 تقريبًا- 415م) فيلسوفة تخصصت في الفلسفة الأفلاطونية، وهى تعد أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كعالمة رياضيات، وكما لمعت في تدريس الفلسفة وعلم الفلك، وكانت أول سيدة رئيس للمدرسة الأفلاطونية في الإسكندرية.
ومنذ العصر المتأخر وفى العصر البطلمى بصفة خاصة مع نشأة مدرسة ومكتبة الإسكندرية، كانت مصر مقصدا لتلقى العلوم والتعليم على أيدى علماء ذاع صيتهم خارج حدود مصر، فنجد علماء من بلاد اليونان ومؤرخين وفلاسفة يأتون إلى مصر لتلقى العلوم على أيدى علماء وفلاسفة مصريين أضافوا للعالم في جميع العلوم والفنون والآداب وشتى أنواع المعرفة.
* وزير الآثار