الجوهرة

أيمن الجندي السبت 30-05-2015 20:14

لا أدرى الآن أي شىء عنه. أتمنى لو كان قد مات واستراح من عذابه الجهنمى. باختصار كان الشك سر عذابه. أي ما يتعلق بالبعث والحساب واليوم الآخر. أظن أننى الوحيد الذي ناقش معه هذه المسائل. بعد أن آنس لى سألنى: «الدين قرار خطير جدا. الإيمان يغير حياتك ببساطة وربما يدفعك للتنازل عنها. أليس من حقى أن أطلب دليلا لا يخالطه شك على صدق هذه المزاعم؟».

وكنت أبتسم قائلا: «ولكنها أدلة وليست دليلا واحدا». فيقول لى بحرقة: «أرحنى بها». ويقرب وجهه من وجهى، وتبدو على ملامحه اللوعة. وأبسط له الأسباب التي دفعتنى بالإيمان بالخالق عز وجل. روعة الخلق التي تحيط بى كل لحظة. الدقة والرقة. والنعمة والجلوة. والإحسان على مخلوقاته. ثم أهتف بلوعة وأنا أرنو إلى السماء: «متى غبت حتى أحتاج إلى دليل يدل عليك».

ويرفع عينيه إلى السماء ويقول: «وجوده لا شك فيه ولكن ماذا عن الدين؟ ما دليلك على البعث واليوم الآخر؟». وكنت أقول بصبر: «لم يكن خالقا إلا لأنه كامل! والدنيا مليئة بالظلم والظلم يتناقض مع كماله. لذلك يُبعث الإنسان ليكتمل العدل ويلاقى جزاءه».

وكان يبدو على وجهه الضيق، ويقول في حدة: «أدلة عقلية! أدلة عقلية! أريد شيئا أمسكه في يدى وحاسبنى بعد ذلك. لماذا لا يظهر لى أبى الميت خمس دقائق فقط، ويؤكد لى أن هناك جنة ونارا!».

قلت مبتسما: «لقد طلبها كفار مكة من قبلك. فطلبوا أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا! أو يأتى الله والملائكة قبيلا». قال في إصرار: «خمس دقائق». قلت في جد: «لا فارق. كلها خوارق مادية. ولكن ألا تعلم أن عدم الاستجابة لطلبك نعمة! الله يغفر لنا ويقبل الزهيد من أعمالنا لأننا لم نر! ولو منحنا الخارقة سيكون الحساب عسيرا وصارما. ألم تر أن جميع الأمم السابقة أُهلكتْ بعد الخوارق؟».

حديث لا هوادة فيه لطالما تبادلناه. حتى شعرت باليأس والفتور منه. ومرت سنوات وسنوات. وشاهدته بعدها في أسوأ حال. زائغ النظرات نامى اللحية. ليلتها أخرج لى من جيبه جوهرة شعت ببريق لا يُقاوم. وبصوت كالفحيح راح يحكى ما حدث.

- كنت في ليلة بلغ منى العذاب منتهاه. وخاصمنى النوم وراحة القلب. فرحت أصرخ كالمجنون: «ما الذي يضيرك لو استجبت وأرحتنى؟. أعطنى شيئا أراه بعينى».

واقشعر بدنى من جرأته فأردف: «وأمسكت بحجارة صغيرة وقلت عفو الخاطر: حوّل هذه الحجارة إلى جوهرة، وسأستقيم لك بعدها كما أمرتنى».

وسكت صديقى وشعرت بقشعريرة تسرى في جسدى. ونظرت إلى الجوهرة في ذهول. إذاً فقد حدثت المعجزة. إذاً فقد استجابت السماء له ومنحته الدليل الذي لا يدحض على صدق الغيب. قلتُ في رهبة: «إذن فقد استرحتَ». قال في رعب: «بل بدأت معاناتى».

ونظر إلى السماء مذعورا: «الآن مطلوب منى أن أفى بعهدى وأستقيم! ولكن هل تعرف معنى الاستقامة؟ أن أراقب كل خاطرة، أن أتحكم في كل كلمة ينطقها لسانى! أن أقاوم نداء الغرائز البدائية! أن يصبح معيار حسابى مختلفا عن سائر البشر! ليتنى استمعت لنصيحتك ولم أطلب اليقين الحارق».

وضحك ضحكة ماجنة لم أسترح لها. قال لى: «هل تبادلنى وتأخذ الجوهرة؟». ابتعدت في نفور غريزى. قال وهو يغمض عينيه مُعذّبا: «حتى رغبتى في الخلاص منها سأُحاسب عليها».

وانصرف ولم أره بعد ذلك قط.

aymanguindy@yahoo.com