■ أقول: سأقطع هذا الطريق الطويل إلى آخرى.. وإلى آخره. (محمود درويش)
استيقظ مبكرا، نظر إلى ساعة الحائط، كانت قبل السادسة بقليل، بدأ طقوسه الصباحية باسترخاء، لأن موعد طائرته بعد 4 ساعات، استغرق ساعة بين البانيو والإفطار وارتداء ملابسه، ثم حمل حقيبته الصغيرة وخرج بارتياح إلى الشارع، استوقف سيارة أجرة: المطار يا أسطى.
كان شكل الشارع غريبا بالنسبة له، ليس هذا هو زحام السابعة صباحا، الشمس ساطعة أكثر مما ينبغى في هذا التوقيت! لكن شيئا ما كان يدفعه لعدم الدهشة، كان مستسلماً لحالة الاسترخاء التي شعر بها في هذه الإجازة بالذات.
أحمد يسافر كثيرا، أحمد منظم جدا، أحمد عقلانى إلى درجة كبيرة، يرتب لكل بسيطة وخطيرة، أحمد كومبيوتر بشرى نادر، لأنه- رغم نظامه الصارم- لا يفتقر إلى المشاعر العاطفية المخلصة والقيم الإنسانية النبيلة، لذلك يطلق عليه أصحابه ألقابا للمديح من نوع: الإنسان الاستراتيجى، التكنولوجى، السيكيورتى، الساعة.
رنّ هاتف أحمد، نظر إلى الشاشة مندهشا، إنه صديقه النقيض (س)، فتح الخط وقال له ضاحكا: غريبة.. إيه اللى مصحيك بدرى، إحنا نعرف بعض من سنين، عمرك صحيت قبل العاشرة؟
فجأة توقف عن الضحك، وسأل السائق: الساعة معاك كام يا أسطى؟
رد السائق إنها التاسعة والنصف.
رفع الهاتف إلى أذنه مرة أخرى وقال لصديقه: هكلمك بعدين.
فهم السائق المأزق، وسأله بأدب: هي طيارتك الساعة كام يا بيه؟
- 10.15.. رد أحمد بهدوء، وهو يعرف جيدا أن المسافة إلى المطار تحتاج نصف ساعة أو أكثر حسب زحام الطريق، وهذا يعنى أنه لن يلحق بالطائرة في كل الأحوال، حيث تقتضى «القواعد» أن يكون متواجدا قبلها بوقت لا يقل عن الساعة لإنهاء الإجراءات التي يحفظها بدقة.
قال السائق بطريقة عملية: ألف وارجع يا بيه؟
- لا.. لا، كمل!
في الطريق إلى المطار لم يفكر أحمد في سبب الورطة التي وقع فيها، ولم يسأل نفسه: هل توقفت ساعة الحائط في شقته بعد فراغ البطارية، أم أنها كانت تشير إلى التاسعة لكن شيئا غامضا جعله يقرأ التوقيت بشكل خاطئ؟
كان في طريقه إلى مقابلة مهمة تضيف له المزيد من النجاح والشهرة، لكن الإعلامى المتميز الذي عُرف بين زملائه بالدقة والدفاع عن القواعد الصارمة والمعايير العملية والعلمية والأخلاقية في العمل، يخلف الآن أهم موعد في مسيرته، والمدهش أنه يستقبل ذلك بهدوء عجيب لم يؤثر على حالة الاسترخاء التي طرأت عليه في هذه الإجازة القصيرة المخصصة لإتمام هذه المقابلة!
لماذا لم يضبط المنبه كعادته؟ ولماذا اعتمد على ساعة الحائط وحدها، ولم ينظر في ساعة الموبايل؟ ولماذا طلب من السائق أن يستمر في الطريق نحو المطار، رغم أن التفكير العقلانى ينتهى إلى نتيجة حاسمة واحدة، وهى أنه لن يلحق بالطائرة؟
سألته هذه الأسئلة عندما حكى لى القصة بتفاصيلها بعد شهور طويلة.
قال: سأبدأ بالإجابة عن السؤال الأخير، عندما تيقنت أن اللحاق بالطائرة مستحيل، فكرت في طريقة للتغلب على هذا المستحيل، ولم يسعفنى العلم، ولا الدقة، ولا التفكير العملى، لم يكن أمامى إلا التفكير بالأمل، راهنت على الغيب والمصادفات والأمنيات، ولجأت إلى ما يشبه الاستخارة، قلت في نفسى: ربما تتأخر الطائرة لسبب ما، فألحق بموعدى، أما إذا أقلعت فإن الله لا يريد لى هذه الفرصة، ولابد أن أقبل بذلك راضيا، وبالنسبة لأسئلتك الأخرى، أعتقد أننى فكرت بالعقل الباطن، وتركت مساحة للقدر يرتب الأمور حسب «التساهيل» فلم أضبط المنبه، ولم أطبق تعليماتى الصارمة، ربما لأننى أردت هذه المرة أن يختار لى الله، لأن اختياراتى العملية لم تحقق لى الرضا الذي كنت أنشده، وأعتقد أن مصر تعيش نفس المأزق، أي تفكير واقعى يؤكد أنها لن تلحق بموعد طائرة النهضة والتقدم، فالظروف صعبة، والأزمات متفاقمة، والحلول متعثرة، وليس أمامنا إلا التفكير بالأمل، لابد أن نواصل الطريق نحو المطار، ربما تتيسر لنا فرصة يريدها الله، لكننا حتى الآن لا نستحق أكثر مما نعانيه، فأكرمنا من عندك يا كريم.