يا سيدتى كيف أحبك؟!

سمير عمر الخميس 28-05-2015 21:55

من بين الأشياء القليلة والبسيطة التى تمنحنى البهجة قضاء بعض الوقت مع شباب الصحفيين، أناقشهم وأستمع لآرائهم وأفكارهم وهمومهم ومشاكلهم. فى هذا الأسبوع كنت على موعد مع تلك البهجة لمشاركتى مدرباً فى مشروع تنظمه بعثة الصليب الأحمر فى مصر مع مؤسسة أولاد البلد لتدريب الصحفيين على المهارات الصحفية وأخلاقيات المهنة والحماية القانونية للعاملين بالصحافة. هذه المرة كنا فى مدينة المنصورة التى زادتنى بهجة إطلالة صباحية على نيلها من شرفة الفندق.

كانوا نحو عشرين زميلاً وزميلة يعانون كما نعانى نحن معشر الصحفيين من هموم وأوجاع العمل فى بلاط صاحبة الجلالة. سألتهم ما أهم المعوقات التى يواجهونها فى عملهم داخل مجتمعهم المحلى؟ فكانت كل الإجابات تشير إلى أن أجهزة الأمن هى المعوق الأساسى، فيما تأتى شرائح متباينة من المجتمع فى المرتبة الثانية، وبين تضييق أجهزة الأمن على الصحفيين، وضيق صدر تلك الشرائح المجتمعية من مجرد ظهور أى صحفى على مسرح الأحداث يواصل هؤلاء الشباب عملهم فى مناخ يقولون إنه معاد لحرية الصحافة.

نفس الرأى سمعته من قبل فى لقاءات سابقة مع صحفيين فى الصعيد وآخرين فى الإسكندرية ومرسى مطروح.

وواقع الأمر يشير إلى وجود تراجع ملحوظ فى مؤشرات حرية الصحافة فى مصر ليس فقط بسبب ما تعتبره الجماعة الصحفية تعنتاً من قطاعات مؤثرة فى صناعة القرار داخل الدولة، ولكن أيضاً من قبل شرائح فى المجتمع تحمّل الصحفيين والإعلاميين مسؤولية ما تراه أزمة مجتمعية مركبة.

فالصحفيون من وجهة نظر الطرفين متهمون وإن ثبتت براءتهم، وهنا مصدر الخطر.

فالصحفى حتى يتمكن من لعب الدور المنوط به مجتمعياً، وهو ضمان تدفق حر ونزيه للأخبار دون تهويل أو تهوين- يحتاج لبيئة تشريعية تحفظ له حقوقه ومظلة نقابية تحميه، ويحتاج كذلك لظهير شعبى يثق فيه ويدعمه فى مواجهة بطش السلطات المحتمل وإرهاب جماعات المنتفعين والفاسدين المؤكد، وإن فشلت التشريعات فى حفظ تلك الحقوق أو أخفقت النقابة فى توفير هذه الحماية فلن يتبقى لنا كصحفيين سوى الظهير الشعبى، ولا شك أن الحصول على دعم وتأييد هذا الظهير يحتاج منا نحن الصحفيين أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نحفظ بضمير إنسانى ومهنى شرف الكلمة «الكلمة نور... وبعض الكلمات قبور»، وأن نواجه كجماعة صحفية انحراف بعض المنتسبين للمهنة الذين لطخوا بأفعالهم ثوب الصحافة وأساءوا لشرف الكلمة.

إن التركيز على بطش السلطات وتضييق شرائح فى المجتمع على الصحفيين والإعلاميين فقط دون الالتفات لما أصاب المهنة من مذلة ومهانة على يد بعض المنتسبين لها- لا يعطى قراءة صحيحة للأوضاع.

ونحن فى هذا الصدد وإلى جانب جهود الجماعة الصحفية عبر نقابتهم ومؤسساتهم فى تصحيح الأوضاع نحتاج لرص الصفوف لمواجهة كارهى حرية الصحافة وأعداء الحرية بصفة عامة، ونحتاج أيضاً لدولة قوية تنحاز انحيازاً حقيقياً لدور الصحافة والإعلام فى التنوير والتبصير بحقيقة الأوضاع بعيداً عن اعتماد نموذج الحشد والتعبئة دون الالتزام بقيم الشفافية والمكاشفة، وإن تقاعست الدولة عن لعب هذا الدور فلا أقل من مواجهتها دفاعاً عن حرية الصحافة والرأى والتعبير التى ستصب دون شك فى مصلحة الأمة وصالح المجتمع، وقد خبرت الجماعة الصحفية المصرية عبر نضالات طويلة طريق المواجهة والدفاع عن الحق، وربحت جولات عدة فى مواجهة سلطات سابقة كانت ترى أن «توسيع هامش الحرية» هو غاية المنى، وأن حرية الصحافة هى منحة يجود بها الحاكم على الصحفيين.

إن الحرب على الإرهاب وجماعات العنف المسلح لن يكتب لمصر النصر فيها بالمواجهات الأمنية فحسب؛ فالمعركة أكبر، وساحات المواجهة فيها أوسع، وحرية الصحافة وحرية الرأى والتعبير هى السند الرئيسى للجهود الأمنية.

ما زال فى الوقت متسع للجميع، وما زالت أطراف المعادلة قادرة على مد جسور الثقة، لكن الاستمرار فى المكابرة والعند لن يفيد أحداً، ولن يخلف سوى مزيد من التدهور.

للشاعر العربى الراحل نزار قبانى قصيدة موجعة سماها «كتابات على جدران المنفى»، يروى فيها وقائع القهر فى المدن العربية ويعرض فيها لوسائل القمع التى يواجهها الكتاب:

كنت أظن الكلمة بيتى

فإذا بهم سرقوا الباب

وسرقوا السقف

سرقوا الورق الأبيض منا

سرقوا الحرف..

ثم يمضى متسائلاً

يا سيدتى..

ماذا يبقى من إنجيل الثورة

حين تقرر قتل مغنيها

ماذا يبقى من كلمات الثورة

حين ستمضغ أكباد بنيها

حين تخاف الدولة من رائحة الورد

فتحرق كل مراعيها

ثم يبشر قرب نهاية القصيدة

يا سيدتى: لا تهتمى

سوف أظل أحبك...

حتى أفتح نفقاً تحت البحر

وأثقب حيطان المنفى

أقول: يمكن تدارك الأمر إذا التزمت الجماعة الصحفية بتنقية الثوب الأبيض من نجس بعض المنتسبين، وإن التزمت الدولة بحماية حرية الكلمة وإن اقتنعت دوائر السلطة بأن الحرب تحتاج لرص الصفوف لمواجهة العدو لا فتح جبهات جديدة للصراع، وإن اقتنع المجتمع بأن حرية الصحافة والرأى والتعبير هى حق للمجتمع ليعرف أكثر فيقرر بوعى ويختار على بصيرة.