(1)
كنا في الثانوية العامة، وكان لي زميل من جيران الشارع، مشهور بالأدب والحياء وحسن الخُلق، كان منطويًا إلى حد ما، من تلك النوعية التي نصفها بأنه «في حاله».
دار بيننا ذات يوم نقاش حول تطلعات المستقبل والمهنة التي يحلم كل منا بأن يعمل بها، وكيف يمكن تحقيقها.
تغيب عني الآن تفاصيل الحوار، ولكن زميلي الذي كان متفوقًا، حصرَ الكليات التي يرى مستقبله مضمونًا فيها في كلية التربية كخيار أول، تليها- لا قدر الله- كلية الآداب إذا لم يحالفه الحظ.
أذكر أنني وقتها تفلسفت وقلت له إن الحقوق أيضًا كلية تتضمن قدرًا من الأمل، فإن لم ترغب في أن تكون محاميًا فعلى الأقل لديك الأمل في أن تصبح «وكيل نيابة».
لم تتغير ملامح وجه زميلي كثيرًا، لأنه بالأساس تربى على تهيئة النفس على استقبال الواقع كما هو، اكتفى بالنظر في وجهي وكأنني أمزح، وقال: «مش للي زيّي يا وليد؟».
كان الحرج- وقتها- من نصيبي أنا، فكأنني اطّلعت على عورة إنسان لا يملك من أمر إخفائها الكثير، ورغم ذلك فقد قاوحت بصلف المراهقة وقلت له: «اعمل اللي عليك يا أخي، والباقي على ربنا».
ابتسامته الودودة لا تفارق مخيلتي حتى الآن، وهو ينهي الحوار بقوله: «أبويا عامل يومية بسيط، ورحم الله امرأ عرف قدر نفسه».
خرجت عبارته الأخيرة محملة بوعي غريب على مرحلتنا العمرية، إنه وعي المدرك المعايش لمعانيها، وهو- بلا شك- وعي يُثقل الكاهل ويُرهق القلب في تلك الفترة المبكرة من العمر.
(2)
تذكرت هذا الجار النبيل، حضرتْ ملامحُه المسالمة أمامي عندما قامت الدنيا في مصر ولم تقعد إلا برحيل وزير العدل السابق محفوظ صابر، عندما أقر بتلك الحقيقة، مصرحًا بأن «ابن عامل النظافة لا يمكن أن يصبح قاضيا أو يعمل بمجال القضاء» معللًا ذلك بأن «القاضي لابد أن يكون قد نشأ في وسط بيئي واجتماعي مناسب لهذا العمل، ولو أصبح قاضيا سيتعرض لأزمات مختلفة، منها الاكتئاب، وحينها لن يستمر في المهنة» مؤكدا أن «هناك وظائف أخرى تناسبه، القضاء الشامخ ليس من ضمنها».
لم يُدل الرجلُ بجديد، فقد أقر بحقيقة ما يحدث، وهي ممارسة اعتاد عليها الناس وتعاملوا معها لعشرات السنوات باعتبارها أمرا مسلمًا به وحقيقة واقعة أو قاعدة عامة، وإن كانت لها استثناءات فهي حتمًا من قبيل التأكيد لا النفي.
إلا أن الجديد الذي أضافه الرجل، وكان سبب رعب للسلطة قبل غضب الناس، هو أنها المرة الأولى التي يتحدث أحد رجال السلطة- من داخلها- موضحًا ملامح الفلسفة التي يتذرع بها أصحاب هذا المنطق من أصحاب السلطة لترسيخ تلك الممارسة!.
الحقَّ أقول لكم، لم تشغلني كثيرًا النقطة المركزية في تصريحات وزير العدل السابق، ولم أتفق مع من اتهموه بباقة من الاتهامات أبرزها «العنصرية والطائفية والتمييز وإثارة الحقد الطبقي والفوارق الاجتماعية بين أبناء الشعب»، بل إنني- على العكس- اعتبرته أكثر صدقًا وشجاعة من غيره ممن يكذبون أو يخاتلون الناس.
ما شغلني في هذه اللعبة هو أمور أخرى، نقاط صغيرة تتراوح بين الإيجابية والسلبية، ولا علاقة لها بالأشخاص الذين كتبت لهم الأقدار أن يكونوا أبطالها.
(3)
في مقدمة النقاط الإيجابية: أن الشارع المصري أصبح شريكًا في معادلة الحكم، وهو الأمر الذي ما زلتُ أرى فيه المكسبَ الأهم لثورة 25 يناير: «كسر نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم».
فقد بات الشعب قادرًا بوسائله المختلفة على أن يشكّل ورقة ضغط في مقابل ضغط السلطة الحاكمة، لفرض ما يراه صحيحًا أو تغيير ما يراه خطأ.
قد نتفق أو نختلف حول صحة أو خطأ اتجاه الضغط وطريقته، إلا أنها أمور نتوقع أن يتم تطويرها مع الوقت والممارسة.
فهذا المكتسب على أهميته، لا يتحقق- بطبيعته- بسهولة بين ليلة وضحاها، فهي معركة عض أصابع، بين الشعب من جهة، وكل أشكال السلطة من جهة أخرى. وهي معركة بدأت في أعقاب ثورة 25 يناير، ويمكن إحصاء معاركها واحدة واحدة، ولا أظنها سوف تنتهي في المستقبل المنظور، سوف يستمر الشعب في اختبار مساحات قدراته وتستمر السلطة في اختبار كل الممارسات الكفيلة بانتزاع أكبر قدر ممكن من الاستبداد بسلطاتها، وليس من الضروري أن يكون الاستبداد ظلمًا.
نحن في حاجة إلى ما لا يقل عن 30 سنة لإرساء القواعد الجديدة التي سوف تسفر عنها اللعبة، بعد أن تتخلص مصر من سموم جيل كامل ويتسلم الحياة جيل جديد تتراجع في ثقافته نسبة السموم، ليسلمها بدوره إلى الجيل التالي...وهكذا بالتدريج إلى أن يصبح الأمر طبيعيًا وتخفت وطأة عض الأصابع لتتحول إلى نمط واضح من العلاقة بين الحاكم والمحكوم تحكمه قواعد وآليات جديدة واضحة ومتفق عليها لأنها جزء من النسيج الثقافي لكلا الطرفين.
نقطة إيجابية أخرى أكدتها قضية وزير العدل، تتمثل في أن الشعب بات عنصرًا مؤثرًا في وضع أجندة الإعلام، فرغم مساوئ «إعلام التعبئة المصري» الكثيرة، إلا أن هذه الحادثة واحدة من الإشارات التي تُبقي بابَ الأمل مفتوحًا في أنه مهما بلغ مستوى صلافة الإعلام المصري، فإنه لم يبلغ بعد حدَّ تجاهل غضب الشارع لصالح السلطة - أيًا كان مستواها.
وعلى الشعب أن يعي هذا الدرس، كما على السلطة – كذلك أن تعيه.
(4)
أما الأمور السلبية التي يمكن الحديث عنها انطلاقًا من هذه القضية، فيمكن صياغتها في هيئة تساؤلات مع محاولة التفكير بشأن أجوبتها المقترحة:
أول التساؤلات وأكثرها إلحاحًا على ذهني: ما العلاقة بين السيسي كرئيس جمهورية، والزند كوزير للعدل؟
أو بمعنى أدق: هل أقال رئيس الجمهورية وزيرَ العدل من خلال مقياس يتعرف به على درجة حرارة الشارع، أم أن للرئيس مقاييس أخرى غير معلنة؟
وهو سؤال يتعلق- أيضًا- بنظرية عض الأصابع التي أشرت إليها منذ أسطر، والتي يُفترض أن طرفيها هما السلطة والشعب؛ فإذا كان رئيس الجمهورية قد انتبه إلى غضب الشارع من وزير العدل مما اعتبره الناس إهانة لهم، فقرر إقالته، فلمن استمع عندما قرر استبداله بشخصية أخرى مثيرة للجدل ولا تحظى بالقدر الكافي من الاتفاق بين أطياف الشعب المختلفة، فالسجل الإعلامي للمستشار الزند زاخر هو الآخر بتصريحات مثيرة للجدل، بعضها لا يقل في عنصريته وعنجهيته عن التصريح الذي أودى بسابقه.
كما أن البعض يرى في توليه حقيبة العدل في هذه الفترة تعارضَ مصالح لما يثار عن أن المحاكم تشهد قضايا يختصمه فيها عدد من الصحفيين والقضاة والسياسيين، إضافة إلى الحديث الدائر عن قضية فساد متعلقة بأرض...إلخ.
بعض المتحمسين يرى في تولية «الزند» حقيبة العدل حركة «حرق كرت» بلغة أوراق اللعب، ويعتبرونها خطوة ذكية- يقصدون خبيثة- لإقصاء الرجل -المشتاق لممارسة السلطة- من المشهد السياسي المقبل، عبر توريطه في ساحة تغلي بالغضب والصراعات، تتراجع فيها نسب خروجه آمنًا!، إلا أن هذا الافتراض - حتى لو كان صادقًا- فإنه يصب مرة أخرى في مساحة «عض الأصابع» التي تجري الآن على ملعب السياسة المصري.
كما أن إغلاق الأذن - التي بدا للناس أنها استجابت لشكواهم حين أقالت «صابر»- عن شكواهم عند تعيين بديله «الزند»، لهو رسالة مهمة يفسرها البعض بـ: احنا اللي بنحكم ...وليس أنتم!
(5)
سؤال أخير أراه جديرًا بالطرح وكفيلا بتحديد الصورة، وبيان ما إذا كان الأمر قد تم على محور تفهم رغبات الشارع، أم على محور «عض الأصابع» أم على محاور أخرى لم نفهمها بعد.
وهو سؤال جدير بأن يتحول إلى قضية رأي عام في المرحلة المقبلة، كنوع من اختبار مدى موضوعية أجندة الإعلام المصري في الوقت نفسه.
السؤال هو: هل نشهد تغيرًا واضحًا وصريحًا ورسميًا وسريعًا في ملف «تعيين أبناء المصريين في القضاء»؟ فمع افتراض حسن النوايا، من المتوقع أن يخرج علينا في القريب العاجل مسؤول حكومي رفيع المستوى ليعلن عن تغييرات جذرية في هذا الملف بالتحديد، تعيد السيادة للشعب- كما ينص الدستور في مادته الرابعة- وتضع بقية مواد الدستور المتعلقة بحقوق المصريين محل التنفيذ الفوري على الأخص مبدأ تكافؤ الفرص الذي تلتزم الدولة بتحقيقه بين جميع المواطنين دون تمييز (مادة 9)، وما أقرته المادة 14 التي تنص على أن الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة، مع التطبيق العملي والفوري على القضية مثار الغضب «تعيينات القضاء».
هذا ما سوف تسفر عنه الأيام القليلة المقبلة.
آسف، هذا ما يُفترض أن تسفر عنه!
waleedalaa@hotmail.com