تحدث الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى، في هذا الجزء من حواره لـ«المصرى اليوم» عن رؤيته لمصر خلال الفترة المقبلة وحجم المخاطر التي تحاصرها من كل جانب، ومن إرهاب ما يسمى «داعش والنصرة وبيت المقدس»، مستشعرا حجم الأزمة والمخاطر، وتحدث عن الرؤساء الأربعة «عبدالناصر» و«السادات» و«مرسى» و«السيسى»، مؤكدا أنه لا يؤيد السيسى لكنه يؤيد مصر، ويحتمى خلف رجل يوافقه في الرؤية، متسائلا، إذا استبعدنا السيسى فمن يمكنه حكم مصر، وهاجم السادات وعهد الانفتاح الاقتصادى وما لحق بالشخصية المصرية من تهشم، وتطرق إلى الكماشة التي صنعت خصيصا لمحاصرة الفرعون المتمرد.
وتحدث الأبنودى قائلا: مصر التي أراها في الفترة المقبلة ليست هي مصر الكل، مصر محاصرة حصارا من أقصى ما واجهته في حياتها، منه ما يمكن رؤيته «للمبصرين»، ومنه ما هو غير مرئى، نحن على أطراف الشاطئ لم ننزل بعد إلى بحر المعترك، فكان الله في عونها إذا لم يتحد كل أبنائها ويتحولوا إلى كتائب مقاتلين، فما بالك ونحن نحاول الآن أن نجعلهم مجرد مواطنين.
تذكرنى هذه اللحظة بعام 1956 عندما ذهبنا جميعا للتدريب على السلاح لمواجهة خطر قادم، وجاء في العدوان الثلاثى، نحن الآن محاصرون من سيناء وليبيا ومشكلتنا مع السودان وإثيوبيا واليمن وباب المندب وكل ما يسمى «داعش والنصرة» أظنها شهبًا أو نيازك هدفها السقوط على مصر وقد يحدث أن تنتصر، إذا لم يفق الشعب المصرى ويجمع أبناءه ويتسلح بوطنيته القديمة، ويتحول إلى كتائب قتالية كما قلت من قبل، لذلك حين أقول إنه من الممكن أن تمر على مصر أياما تهرب فيها أشعارنا في الخفاء مثل المخدرات معنى ذلك أن هؤلاء المغول أو التتار الجدد من الممكن أن هذه الجلسة التي تجمعنى «بينى وبينك» لا يمكن تكرارها كاثنين يتحدثان بهذه الحرية، هذا ما يغيب عن ذهن الشباب الذي اعتبره يلعب الدور السلبى الأساسى في حركتنا للتحرر والبناء على الرغم من أنه مستقتل في إيقاف مسيرته.
يعنى لو أزعق بعلو الصوت لكى نخرج من هذه البلادة «الأبنودى يؤيد السيسى»، أنا لا أؤيد السيسى أنا أؤيد مصر، وأحتمى خلف الرجل الذي يوافقنى في الرؤية، «بلاش السيسى نرجعه»، نرجع كمان الجيش، لكن السؤال من يحكمنى، هل أنت، ولا عايز ترجع الإخوان تانى، أم ماذا تريد؟
أعطنى طريقة وأنا اتبعك لحكم مصر، لكن تقول الديمقراطية و«سوق الثلاثاء» كل واحد يضرب الثانى ويخلع عين الثانى، هذا لا يصلح، ولكن لدينا عناصر عظيمة الشأن ترى وتتصدى، لم يكن أحد ضد مبارك مثل عبدالحليم قنديل لماذا هو الآن المدافع الأول عن السيسى، هل فقد عقله أوثوريته مثلا، الرجل «بتاع كفاية» الذي ضرب عاريا وألقى به في الصحراء، وإبراهيم عيسى أكثر صحفى قدم للنيابات في قضايا وخلافه وهو أول من هز عرش مبارك بجسارة وعظمة واستمرارية هو الآن يقاتل من أجل السيسى فهل هي انتهازية مثلًا، السيسى يأخذ ولا يعطى، الانتهازية كانت أيام مبارك والفلوس كانت أيامه أيضا.
مصر الآن في مأزق رهيب، وعلى ما يبدو نحن إلى صفحات من التاريخ التي عفا عليها الزمن، نريد حرية وحياة نبنيها نحن والآخرون يدركون أننا لم ندرك بعد أن زمن البحث قد ولى، وكل أشكال المناورات عادت مكشوفة ومستهلكة وألعابنا شديدة الوضوح بل صبيانية هكذا يرونها والأدهى أننا على الحديدة، ليس لدينا ما يعيننا على بناء تلك الحياة، وهل يقيم إنسان حياته على الشحاتة أو السلف؟.
والمشكلة أن أمريكا وسلاطين الحروب والأسلحة والاقتصاد القابضين على رقبة العالم لا يروقهم تململنا أو تمردنا، ولا الرئيس الذي يبدو رومانسيًا وهو يدير معاركه بإقتدار، ولكن هل نستطيع بكل وسائلنا أن نفلت من الحصار؟
ننظر إلى الخرائط من حولنا، خرائط الحصار الجغرافى والفكرى في مساره، فأعداؤنا دائمًا ينظرون ويخططون ويرسمون لقدم كل تلك القطعان الهمجية القادمة من الصحراء والجبال من العراق وسوريا واليمن إلى جانب جحافل جبال أفغانستان وباكستان، ثم من الجانب الآخر ليبيا وتونس وإرهابيى الجزائر وغيرهم في الصحراء الواسعة وفى انتظار الكثيرين دائمًا، ثم السودان الشقيق، بموقفه المريب من كل ذلك والذى يسهل الأمر على بعض المخططات مثل الإيرانية وعمله في تهريب السلاح إلى ليبيا وصلته بالمخطط الإثيوبى، كلها كماشة صنعت خصيصًا لمحاصرة مصر الفرعون المتمرد.
إن السنين المقبلة التي لن أكون من شهودها تبدو للعيان واضحة باطشة فهل مازال للشعب المصرى طاقة على الصف في كتائب النضال والدفاع وأبناؤه كما ترى يلعبون في وحل الكلمات التي دحرجت إليهم في غفلة مخيفة منهم.
يخيل لى أن مصر بعد 50 عامًا لن يكون بها ما يدل على أننا مررنا حتى بمجرد مرور على ترابها، لقد تقدمت أساليب السطو على الشعوب وصارت لها قوانين محكمة لا يمكن اختراقها إلا بالدماء وبرجولة، أرجو أن نكون قد احتفظنا ببعض منها كخميرة للجهاد الحقيقى وليس الجهاد لكذبة «الراسبوتينيين» الذين يسعون إلى أضفاء ما تبقى لديهم من ضوء قليل.
خميرة الجهاد في بلد القريب إليها من أبنائها يسعون للاستفادة ومعظمهم الطيبون فعلا يتفرجون عليها بلذة وهى تتهاوى.. «يا مينا يا موحد القطرين أين أنت»!!
جاءت القصة ولكن انفصال القيادة عن الإدارة عادة مصرية حيث يبدو الرئيس كعلم يرفرف على مبنى قديم كئيب ملىء بالمتآمرين، وعلى الرئيس وعلى العلم وعلى كل من يحاول أن يخلص هذا البلد الجميل من بين براثنهم.
«السيسى» نقطة في بحر التاريخ، وأتمنى أن يأتى اليوم، الذي يكف فيه شباب مصر عن النظر إلى القيادة والنظر إلى الناس لأن الحقيقة تحت وليست في القيادة، وهذا هو الفارق، أن نجد في مصر مبدعين وكتابا جيدين وعظاما لكن لا تعرف عنهم مصر شيئا لانهم ينظرون إلى المساحة، مرتفعة ليس عن وعى الناس، وأنا رجل لم أبتذل الشعر، حافظت على قيم الشعر كما نقرأها عند شعراء العالم وفى الوقت نفسه عينى على شعرى، لأننى لا أكتب الشعر للذة شخصية أو لأطبق القصيدة وأضعها في درج المكتب، كما يزرع الفلاح لنا سنبلة القمح، ويزرعها بعشق له، لكنها للناس، الصانع الذي يصنع الرغيف، هو يأكل منه، هي مهنته لكنها للناس، فإذا المثقف لم يكن عمله للناس، فما هي وظيفته، نحن لا نعمل بأيدينا نحن نأكل من عرق هؤلاء الذين ذكرتهم، ونعيش على جهدهم ولا نقدم لهم شيئا بالعكس يكرهون الجماهير، حين ترتطم أفكارهم بإرادة الجماهير المخالفة.
الأبنودى «طلع» لأن كل حاجة قابلة للفهم لو إحنا عايزين نفهم، أكبر مجتمع مفهوم، بالرغم من مقولة «يا مصر يا أم العجائب» حقيقة لأن تاريخها عجيب، وهى أم العجائب لأن تاريخها كله أعجوبة، لكن هذه العجائب قابلة للفهم، فقط علينا أن نخلع رداء العلماء ونتواضع في معرفتها، التواضع له ثمن، مين مستعد من مثقفى القاهرة أن يقيم لمدة 4 شهور في السد العالى، أو 3 سنوات في حرب الاستنزاف في السويس، أو 7 سنوات بعيدا عن الجميع، والذين يقولون إننى كنت قاطع الطريق على الشعراء، فأنا مقيم لمدة 7 سنوات في هذه القرية بالإسماعيلية، ولا أرى أحدا يتحرك منهم خطوة للأمام، واترك واحدا فيهم يغيب أسبوعا فلن تتذكره «القاهرة» مرة أخرى، ليست فقط القاهرة، بل هما موجودين في منتصف المدينة، في ميدان التحرير وباب اللوق، وبعد ذلك كل مكان بالنسبة لهم في مصر غربة.
طبعا الزمن الماضى منذ عهد السادات والانفتاح الاقتصادى، حدث تهشيم متعمد للشخصية المصرية، إذ كونت كل المثل والقيم والتجارب، التي أفرزتها الناصرية، وتبول عليها الانفتاح الاقتصادى وتسليم الاقتصاد للصوص، ودخول الإخوان، وإعطاء السلاح للطلبة لقتال الفكر الناصرى، هذا يحطم أي كيان نفسى لبلد عاش عمره يحلم بالمستقبل، فإذا به يرتد لما قبل الملكية، ثم جاء زمن حسنى مبارك الذي مسخ الإنسان وصارت مصر مسخا.
سمعت عن بائع كبدة في عابدين، أدخلوه العمل السياسى، أيام مبارك وبدأ يتكلم بذقنه في أمور تهين الوعى، ولا صله لها بالسياسة أو الثقافة، فإذ به يقول إن الأبنودى الذي هاجم مبارك وهو الذي عالجه والذى أهداه قصرًا منيفًا في الإسماعيلية، قال هكذا في التليفزيون.
هذا ليس غريبًا لكن عادة ما يفسد الزعيم بعد بقائه في السلطة 20عامًا مثلا، حيث يكون أداؤه جيدا في البدايات، لكن هؤلاء أفسدوا الدنيا حتى من قبل مجيئهم للسلطة من الميدان إلى تزوير الانتخابات إلى أن اقتلعهم السيسى.
أنا عادة أتحفظ في إبداء آرائى السياسية لكنى يوم 3 يوليو بادرت بإعلان الدعم والتأييد امتنانا لإنقاذ مصر من كارثة كانت تنتظرها لو استمر حكم الإخوان، كارثة ليست أقل من حمام دم، ورأينا ومازلنا نرى الآن نماذج من أسلوبهم في العمل، اغتيالات وأحزمة ناسفة وقنابل بدائية، فما بالك لو كانوا استمروا في الحكم.
«مرسى» كان عنوانا على فكر وجماعة تريد هدم مصر وإعادة بنائها على هواهم، جماعة بلغ منها الحمق أنها لم تفهم المزاج المصرى وحاولت أن تلوى كل الأذرع، لتصنع مجتمعا جديدا ومزاجا شعبيا جديدا، خذلهم الوعى وقادهم الطمع والغرور إلى مصارعهم قبل أن يستقروا حتى على كرسى الحكم.
دعنى أكرر لك أن أزمة الإخوان تكمن في غبائهم الإنسانى، أنا هنا أصف ولا أتهم وأقسو، فقد كانوا يحلمون بابتلاع البلد ثم بيعها لاحقا بالتقسيط، هم كما تقول أدبياتهم يؤمنون بأن الوطن حفنة من تراب عفن، وبالتالى لا مانع من بيعه وقبض ثمنه في سوق العمالة للغرب ولأمريكا تحديدا، صدقنى لولا جرأة السيسى وقدرته على إقصائهم لضاعت مصر إلى الأبد، ومربعات جريدة التحرير رصد شعرى لعام من أسوأ الأعوام في تاريخ مصر، عام حكم الإخوان ومن خلال هذه المربعات قلت كل ما يجول بخاطرى وخاطر المواطن البسيط من علامات استفهام واستنكار ودهشة، أنا مدين بالديون للإخوان المسلمين لأنهم كانوا ملهمين إلى أبعد الحدود ولا تستطيع أن تغض النظر على أفعالهم اليومية، بل بالعكس أفعالهم اليومية تحتاج إلى أكثر من مربع، فترتين في عطائى، فترة «الإخوان والسادات»، وكنت ضد «كامب ديفيد» والسادات كان موحيا جداً، والإخوان نشكرهم على المربعات، وكان لها معجبون منهم «هيكل» الذي كان يهاتفنى من لندن، وقال إنه يستشعر واقع مصر من خلال المربعات فاستغليتها فرصة وقلت له اكتب المقدمة، فقال إن هذا يسعدنى وكتب مقدمة قطعة من قطع الأدب الراقى جدا لأن الكثيرين لا يعرفون أن «الأستاذ» مخزونه من الشعر كبير جدا وليس مجرد حافظ للشعر، وإنما يستمتع بآيات كثيرة من شعر المتنبى وغيره، ونجيب محفوظ قال عنى، أحمد الله أنه لم يخرج روائيا، لكان أفسد لغتنا وقلت له احمد الله أنك روائى لأن الملاحم التي كتبتها في روايات «أولاد حارتنا» و«الحرافيش» ملاحم شعرية، وقلت كنا أخدنا خلافاتنا ورجعنا بلادنا.
وكانت مفاجأة مقدمة هيكل، وقلت له هنعمل احتفالية في جريدة الأهرام وأتمنى ألا تخيب ظنى، وهو كان مقاطع الأهرام وحتى القاعة اسمها محمد حسنين هيكل ولم يفتتحها، وكانت المناسبة في اثنين، الاحتفالية وحضور هيكل.
وفى النهاية يجب أن نعيد اكتشاف معنى الحياة من جديد، ولو اكتشفنا معنى لحياتنا سوف نكتشف مصر، سوف نكشف أن لدينا أدوارا مهمة وكثيرة نؤديها، وكل «الشفوى والافتراضى» الذي نشاهده سوف يتحول إلى لحم ودم وتجربة حقيقية، وتشعر وأنت راحل أنك بنيت شيئا، ممكن أن يتجاهلك كل من يطعنونك في حياتك، ومن الممكن أن يتجاهلوك تماما في موتك «مساهمة في طمسك» ويقولوا: «كويس اللى غار» ولن يسمحوا لك أن يقال عن شعرك «كويس أو وحش» أو حتى يسمحوا بتقييمك، يقابلوك وانت كاتب شىء عنى فيقولون «آه يا عم ما انت منهم، ولا أعلم من هم وليه وكيف، لأن مفيش حياة، هو كلام فقط، والتلقين لا يؤدى إلى وعى حقيقى أبدًا، أنا واحد ليس لدى شلة ولا حزب»، لذلك أترك شعرى في أيادى الشعب أمانة «لأنه ملكه»، وعندما أتعرض لهجوم لا أرد، لأننى ملك الناس، وعمرى ما رديت، ولا يوجد أكثر من الهجوم الذي يلقاه هيكل، لكنه أيضا لا يرد، فقط يؤدى دوره، وتعلمت منه ألا أرد على من يهاجموننى لأن فيه ناس كل عملها في الحياة أن تعرقلك، واكتشفت هذا في وقت مبكر، وفى إحدى المرات غضب منى هيكل لأنى رددت على شخص شتمه، واضطر أن يرد ليدافع عنى.