شباب «التُربية» يتحدثون: «اقروا الفاتحة لما تدخلوا وماتنسوش الحسنة بتاعتنا»

كتب: اخبار الأربعاء 22-09-2010 08:00

يعمل فى منتصف نهار الصيف الحار، فى مكان لا يعرف الظل والهواء، انتهى هو وزميله من حفر وفتح تربة فى مدافن السيدة نفيسة استعداداً لاستقبال وإنزال متوفى آخر، ثم وقف فى انتظار التربى ليقوم بالإشراف على عملية الدفن، «ياسر طه» شاب لم يتجاوز 22 سنة، يعمل صبى تربى منذ 4 سنوات، ورث المهنة عن والده.

«ياسر» مثل عدد من الشباب، الذى قرر لكى يبدأ حياته أن يكون شريكا فى مشهد النهاية لحياة آخرين، يعمل صبى تربى، ويعمل أقرانه فى المهنة ذاتها لأسباب متعددة، أهمها لقمة العيش وتأمين مستقبل يكفل لبعضهم الزواج وربما السكن داخل الحوش، إلا أن «ياسر» لن يتمتع بهذا المسكن المضمون، لأن والده لم يكن صاحب مدفن أو حوش، والتعيين فى مهنة التربى يأتى بالوراثة، حيث يرث الابن مدفن أبيه وهكذا، لم يكن أمامه سوى البقاء كصبى تربى وهو يحلم بأن يستقل بعمله، ومع ذلك يؤكد «ياسر» أن صبى التربى هو المسؤول عن كل شىء، فيما عدا تسلم النقود ومفتاح المدفن «إحنا اللى بنعمل كل حاجة، نفتح التربة وننزل الجثمان وندفنه، التربى بس موجود كده. وفى الآخر ياخد هو 150 جنيه ويدينى 20 جنيه».

يحكى «ياسر» عن عمله السابق بمصنع حلويات، واتجاهه للعمل بمهنة أبيه لأنها تدر عليه دخلاً أفضل «طبعا الواحد ماينفعش يشتغل مع تربى واحد، أنا وزميلى ده شغالين مع 6 تربية، نيجى كل يوم الصبح نقعد نستنى الشغل. نفسى أشتغل شغل تانى، لكن زى ما انتى شايفة شغلنا ده مالوش مواعيد فصعب، إحنا بنستنى قضاء ربنا». بالرغم من صغر سنه وخبراته الحياتية إلا أن ياسر لا يخاف مما يسمع من قصص، بل يحكى عن واقعة نادرة تعرض لها هو شخصيا أثناء دفنه لسيدة «بعد ما نزلناها المدفن تحت صحيت وقعدت تفك الرباط اللى عليها وتصرخ وتقول عايزة ميه عايزة هوا. أنا وزميلى ما اتخضيناش بالعكس احنا فرحنا لها، لكن بعد ما قامت وولادها أخدوها المستشفى رجعت تانى بعدها بمفيش، نصيبها كده بقى»، ويضيف «ياسر» أن أغلب التربية رجال كبار فى السن فيما عدا قلة معينة، وأغلب الصبيان شباب، لأن صبى التربى يجب أن يتمتع بصحة جيدة حتى يستطيع تحمل العمل البدنى.

يعمل «محمد محمد على» 30 سنة، فى مدافن الغفير منذ بلوغه سن الثانية عشرة، وكحال أغلب العاملين بالمهنة، تعلمها «على» من والده، ترك «على» المدرسة بعد عام واحد قضاه فى التعليم الإعدادى وبدأ فى العمل بالمدافن، وبمرور السنوات أصبح تربياً مثل والده.

عمل «على» أيضا بالعديد من المهن الأخرى، من بينها سائق «اشتغلت كذا حاجة، ولحد دلوقتى باشتغل حاجات تانية جنب التربى، لأن شغلانة التربى لوحدها ماتفتحش بيت، فين وفين على ما ييجى لك زبون، وممكن تقعد بالسنة مفيش زبون واحد». ويقول «على» إنه على عكس محافظة الإسكندرية، لا يوجد تسعيرة للتربى فى القاهرة. ولكن الأجر المتعارف عليه لا يقل عن 150 أو 200 جنيه، ويزيد على حسب أهل المتوفى.

«على» متزوج ولديه طفلان، ولد وبنت، ولكنه ينوى أن يكمل تعليم ابنه، ولا يورثه المهنة إلا إذا وقع اختياره عليها بدون أى إجبار «مش مسألة بحبها ولا مابحبهاش، أنا اتولدت لاقيت أبويا تربى واتعلمت وبقيت تربى. وبعدين هو فيه شغل تانى بره؟! صحيح شغلانة التربى مالهاش دخل ثابت، لكن أهى مضمونة». ويتدخل والد «على»، وأحد أهم التربية فى المنطقة، ويقول «فيه كتير معاهم مؤهلات لكن مالاقوش شغل بره فرجعوا ورثوا المهنة عن أبهاتهم واشتغلوا تربية»، ويكمل «على» أن التربى يعين بواسطة الدولة، ومع ذلك الدولة لا تتكفل به ولا يصل أبدا لسن معاش، يعنى التربى موظف من غير ماهية، موظف شحات فى مهنة مالهاش مستقبل».

فى مدافن باب الوزير، جلس «برجو فسبه»، الذى رفض ذكر اسمه الحقيقى، أمام أحد المدافن بجانب الفسبه التى يمتلكها، فعلى عكس ياسر، «برجو» ظروفه المالية والاجتماعية تبدو أفضل حالا، «برجو» 22 سنة، خريج معهد ضباط لاسلكى، ولد وتربى فى الباطنية لكنه يسكن حاليا بمدينة نصر، يعمل «برجو» تربيا، وسائق أتوبيس مدارس، وجزاراً فى المواسم فقط.

«برجو» ورث المهنة عن والده كما جرى العرف، ولكنه لا يستطيع الاعتماد عليها كليا «اللى يقعد على شغلانة التربى لوحدها يموت، وأنا بحب أعيش وأروح الجيم مع أصحابى»، لذلك يعمل مع والده وعائلته فى مجالات أخرى، لم يحاول «برجو» قط العمل بشهادته ويقول إنه لولا أهله لما حاول الحصول عليها منذ البداية «أهلى كانوا عايزينى يبقى معايا أى شهادة والسلام فقلت أريحهم».

يأخذ التربى – على حد قول «برجو»– من 120 لـ250 جنيهاً على حسب ظروف أهل المتوفى، وأحيانا لا يأخذ أى أجر بل قد يوفر مدفناً للأهالى الفقراء، «أصل أغلب أصحاب المدافن هنا من الدراسة ومنشية ناصر والحسين، فبتحصل إن واحد ييجى معهوش يدفن أبوه أو أمه، فبدفنه من غير أى أجر». ويضيف «برجو» أن كل تربى مسؤول عن مدافن معينة، والتربية عادة معروفون فى المدافن بالاسم، فلا يحدث تعارض بين المصالح، وأنه أحيانا يمر بالأسبوع وأحيانا أخرى عدة أشهر دون أى عمل، وأن الأعياد عادة تكون مواسم للتربية، لأن الكثير يأتون للزيارة، والتربى يقوم بكنس وتنظيف الحوش وخدمة الزائرين فى مقابل مبلغ من المال.

لا يخاف «برجو» من الترب، ويقوم أحيانا بالدفن فى الليل إذا لزم الأمر «أنا لو الجثة بتكلم نفسها برضه هادفنها يعنى هاكل منين؟!، أنا أسمع من أبويا وجدى إن زمان كان فيه عفاريت، لكن خلاص دلوقتى المكان بقى زحمة وعلى طول فيه الناس فمفيش عفاريت».

بحكم الوقت اعتاد «برجو» مشهد فتح المدفن والنزول أسفل، وأصبح لا يخافه، ولا يصيبه بأى شىء. وإن كان أحيانا يشعر ببعض القشعريرة و«التنميل» كما يقول. ويضيف «برجو» أنه بكى مرتين على اثنين قام بدفنهما، واحد منهما كان جثة طفلة صغيرة، ويكمل «برجو» أنه يقوم بدفن السيدات والرجال على حد سواء، ولا يؤمن بـ«كلام السنية»، لأنهم كما يقول «بيحللوا ويحرموا على مزاجهم».

يعلم «برجو» أن مهنة التربى لا تلقى استحسان المجتمع، ومع ذلك فهو يعتبرها وساماً على صدره ولا يخجل منها «بلد بتاعة مظاهر وشهادات.. لكن أنا لو رحت أتقدم لواحدة وخافت أو اتضايقت من الشغلة دى يالا تمشى بالسلامة، ما هى كده كده آخرتها هنا.. وبعدين أنا ناوى أتجوز وأعيش وأموت هنا». ومع ذلك يقول «برجو» إنه لا ينوى توريث المهنة لابنه، لأنه يتمنى له «شغلة أحسن».