الفقيه حين يحسد ويحقد ويكيد

أحمد الشهاوي السبت 23-05-2015 21:41

هل نحن فى حاجة إلى فقيه دينى يُبرِّر ما يصدر عن السلطان إلى الدرجة التى يؤلهُه فيها، ولا يهم إن أخطأ أو أصاب؟

وإن لم ترق له ألوهية السلطان أو خَجِل من نفسه ردَّه إلى مرتبة الرسُل والأنبياء.

وإن خشِى لوْم نفسه، وسُخط العباد، وغضب المُريدين ردَّه إلى الصحابة.

وإن زجره فقيهٌ آخر ردَّ السلطان إلى مرتبة الخُلفاء، وهذا أمر ليس خيالياً أو شطحاً منى بل رأيناه بأنفسنا ولمسناه، وعشنا تفاصيله حرفًا حرفًا، إذْ يقوم الفقيه (وهو عندى ليس بفقيهٍ بل مُجرَّد داعية بالأجرة يلبس الدين، ويتزيَّا به) بتأليه سلطانه، ووضعه فى مرتبة القداسة أمام عشيرته أولاً، ثم أمام قومه ثانيةً.

وهذا سلوك قديم معروف ومُتكرِّر فى التاريخ.

والفقيه هذا جزءٌ من بطانة السلطان يصفِّق له بالفتاوى، ويُخْضِعُ الآيات القرآنية والأحاديث النبوية له كما لو أنها أُنزِلتْ فى شأنه، أو هو صاحبها، حتى أن السلطان يُصدِّق أنه كذلك، مُنزَّه من أى عيبٍ، إنسانٌ كامل، قديسٌ، فى مصاف الآلهة، ومرتبة الأنبياء، وإن لم يكن كذلك، فهو على الأقل لا يختلف عن الخلفاء والصحابة فى شىءٍ، إذ هو حكيمٌ، يحكم بالعدل، ومن بعد ذلك يصير الفقيه كالسلطان مُتسلِّطًا، إذ صار سيفًا للسلطان يضرب به، ويبتر من لم يُصدِّق دعوته، ويُؤمن بفتاواه.

وهذا الفقيه يجد له مؤيدين من العبيد، وأيضا من العامة والبسطاء فى العلم والمعرفة والدين، وكذا المُتحلِّقين والحواريين وجُلَّاس السلطان ومسامريه ومضحكيه، ورأينا فى زمنٍ ليس ببعيد هنا فى القاهرة المحروسة الحاكم يختار ضمن من اختار للمجالسة والمنادمة والمشورة قتَلةً سابقين قالوا إنهم تابوا وأنابوا وراجعُوا أفكارهم، ولما دنت لهم السلطنة، وتدلَّى الحكم عادوا عن توبتهم، ورجعوا عن مراجعاتهم.

وهؤلاء وأولئك ليسوا صحابةً جُدداً للسلطان، بل هم مُنتفعون، وعُمىُ لا يُبصرون، ولا يُدركون، إذ يتصورون أنهم أمام رسولٍ جديدٍ، ودعوة جديدة يتم التبشير بها والإبلاغ عنها، وأنها تتعرض إلى مؤامرةٍ من غير المؤيدين، وأنهم من الكفَّار الجُدُد، أو مُنكرى الدين، ولابد من الولاء الكامل للعشيرة والأهل، كما أعلن مرةً واحدٌ من جماعةٍ حكمت مصر، بدأ أول خطابٍ له إلى الأمة المصرية بقوله (أهلى وعشيرتى).

والسلطان ليس نبياً ولا رسولا، كى يُعانى من كُرهٍ وعداء من يحكمهم.

لكنَّ الفقيه يسعى إلى السلطان، ليحلل له ما حُرِّمَ، حتى لا يخسر مكاسبه كتاجرٍ للدين، كما أنه يريد خلقَ مكانٍ خاص له بين الفقهاء الآخرين، ومن لم يوافقه الرأى، يؤلِّب عليه، ويُخرجه من المِلَّة، وقد شهد التاريخ أحداثًا كثيرة، قُتِلَ فيها فقهاء وعلماء وقضاة وفلاسفة صاروا بعد ذلك من أهم الرموز فى التاريخ الإسلامى كالحلاج (244هـ - 309هـ/ 858م - 922م)، والسُهروردى (549- 587 هـ/ 1154- 1191م) الذى قتلته آراؤه، ولذا سمِّى بالمقتُول، ولم يغفر التاريخ يوماً للسلطان صلاح الدين الأيوبى (532- 589 هـ/ 1138- 1193م)، الذى أمر بقتله بعدما دسَّ الفقهاء ضده عند صلاح الدين مُعتبرينه خطرًا على الدين، وسببًا للفرقة بين المسلمين، ومُحرِّضاً ضد الدولة الأيوبية، ومُقوِّضاً أركانها، وداعياً إلى الدولة الفاطمية فى مصر.

وألح الفقهاء على قتل السهروردى، الذى هو أكثر منهم علماً ومعرفةً، وبدلاً من أن يكتب بخط يده خطاب قتله، أوعز إلى وزيره القاضى الفاضل (لا حظ الاسم، له شوارع كثيرة فى مصر تحمل اسمه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ماذا ارتكب فى حق تاج الصوفية الأشهر) أن يكتب خطاب القتل، ويُصادق فيه على ما جاء من تُهَمٍ ألصقها الفقهاء للسُهروردى، ومما كتبه القاضى الفاضل، واسمه عبدالرحيم بن على السعدى (529 - 596 هـ/ 1135 - 1200م): «إن هذا الشاب السهروردى - 36 سنة- لابد من قتله، ولا سبيل على أن يُطلَق، ولا يبقى بوجهٍ من الوجوه».

وكان شهاب الدين السُهروردى صديقًا مُقرَّبًا من ابن صلاح الدين، وكان حاكمًا على حلب، الذى لم يستطع تخليصه من القتل، وأُعدم خنقًا، أو طُلب منه أن يختار طريقة موته، فاختار أن يموت صبرًا على الجوع والعطش، إذ أُخذ فى مكانٍ ناءٍ عن الناس، حيث مُنع عنه الماء والطعام حتى لقِى ربه.

قُتِل السُهروردى، لأن فقهاء السلطان رأوا أن هناك من هو أفضل منهم علمًا، ومن ثم قرَّبه السلطان الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبى، الذى اختصه بمودَّته، إذ كان مُعجبًا بعلمه الغزير، ومعرفته المتنوعة فى علومٍ شتَّى، فحقد عليه الفقهاء، وأظهروا حسدهم، فأُبيح دمه من لدنهم، وكان من ضِمن قائمة تُهمه التآمر على الدولة الأيوبية، حيث كان يقول بما لا يعرفه غيره، ويُؤوِّل القرآن تأويلا باطنيًّا غير مسبوقٍ فى زمانه، وهو الذى «سحر الناس، وحيَّر الألباب، وصوَّر ما لم يوجد، وجاء بما لم يكُن فى إمكانٍ، فكان أوحدَ فى العلوم الكمية، جامعًا للفنون الفلسفية، بارعًا فى الأصول الفقهية، مُفرِط الذكاء، جيِّد الفطرة، فصيح العبارة، لم يناظر أحدًا إلا بزَّه، وكان علمه أكثر من عقله، وكان يعرف علم السيمياء، وله فيه نوادر شُوهدت عنه من هذا الفن»، كما جاء فى كتاب «مسالك الأبصار وممالك الأمصار» لابن فضل الله العمرى.

الفقيه الذى دسَّ عند صلاح الدين الأيوبى، هو ذاته الفقيه القديم الجديد الذى عاش ويعيش بيننا، يدعو إلى قتل من يختلف معه فى المذهب والمُعتقد، تحت سُلطة السلطان وبصره.

وليس مقتل المصرى الشيخ حسن شحاتة (1946- 2013م) ببعيدٍ عن الأذهان، إذ ستبقى الطريقة التى قُتِل بها، ومن معه، علامةً على غوغائية مُناهضيه من السلفيين والجماعة الإسلامية، إذ كان له موقفٌ واضحٌ من ابن تيمية، حيث كان يقول إن السلفيين يقدِّسونه، ويضعونه فى مرتبةٍ أعلى من الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، كما أنه كان ضد الوهابية التى رآها قد بنت فكرها على أباطيل، مما جعلها تُشوِّه صورة الإسلام.

بالطبع ليس حسن شحاتة كالسُهروردى، ولكنْ يظل الفقيه واحدًا فى الدَّس والحقد والحسد والكيد والقتل بدمٍ بارد.

لقد نسى التاريخ أسماء الفقهاء الذين دسُّوا ضد السُهروردى، ورماها فى سلَّته عامدًا، لكنَّه حفظ لنا واحدًا من أبرز شيوخ الوقت الصوفى فى زمانه، والأزمنة التالية وإلى أن تقوم الساعة، حيث صار محلًّا للدرس فى كل بقاع الدنيا، واشتُهرت كُتبه فى العالم، وغنَّى المغنِّى شعره.

والتاريخ يقول لنا إنه كلما تعرَّضت مصالح الفقيه للخطر، فقد سيطرته، وعلا صوته، وأظهر غضبه، وبدأ فى النَّيْل ممن هم أعلى منه اسمًا ومكانًا، وأكثر رسوخًا فى علوم الدين، وعمل على إقصائه ونفيه، وإخفائه بل إبادته بالتخلُّص منه سجنًا أو قتلا، وقبلًا بالتشنيع عليه، وبث الشائعات ضده، وإخراجه من الدين، لأن الفقيه الذى اعتاد تكفير زملائه يكون أكثر من غيره نقصًا فى نفسه وعلمه، وقد حدث ذلك مع أحمد صبحى منصور، ونصر حامد أبوزيد «1943- 2010م»، وكانا يعملان أستاذين فى جامعتىْ الأزهر والقاهرة، وقد اضطرا إلى الهجرة من مصر إلى أمريكا وهولندا، بسبب تعنُّت وجهل زملائهما، وممارسة الدسِّ والتحريض ضدهما.

المشكلة- فى بلادنا- أن الفقهاء يتصورون أنهم يمنعون ويمنحون، يحيون ويميتون، يكفرون ويعطون شهادات الدخول إلى الجنة، رغم أنهم لا يجادلون بالتى هى أحسن، ولا يدعون إلى ربهم بالحكمة والموعظة الحسنة (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) «118 -119» سورة هود، كأنهم لا يعلمون أن نوح عليه السلام ظل تسعمئة عام يدعو قومه إلى عبادة الله، ورغم رفضهم لم يلجأ إلى القتل والتخلُّص منهم.

الفقهاء لا يقولون قولا ليِّنًا، ولا يدْعُون إلى الله بالحكمة والصَّبر والحلم، ونسوا قوله تعالى (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ...) 35 الأحقاف.

ahmad_shahawy@hotmail.com