هل للزبالين عروق دساسة؟!

نصار عبد الله السبت 23-05-2015 21:40

بادئ ذى بدء ينبغى أن نتفق جميعاً على أن استبعاد مواطن يتمتع بالذكاء والعلم والمعرفة والمثابرة والصلابة والجلد، من موقع النيابة أو القضاء لمجرد أن أباه زبال أو بواب أو حلاق متجول.. ما هو إلا جريمة بكل المعايير فى حقه!! ومع هذا فإن الذى نغفل عنه ونحاول أن نتجاهله أو نتناساه حينما ندين مسلكا مجحفا وظالما من هذا القبيل هو أن السماح لمثل هذا المواطن بشغل مثل ذلك المنصب قد يكون هو أيضا فى حد ذاته جريمة أخرى!! لا تقل فداحة عن الأولى، وهى جريمة لا تلحق فى هذه المرة بالمواطن سيئ الحظ الذى شاء له قدره أن يكون واحدا من أبناء هؤلاء الكادحين الشرفاء فحسب، ولكنها قد تلحق أيضا بكل الذين سيقدر له أن ينظر فى قضاياهم من المواطنين العاديين.. لماذا؟!.. الجواب: لأن مثل ذلك العضو من أعضاء النيابة المحتملين أو (القاضى المحتمل) يعيش فى مجتمع مازال إلى الآن بعيدا كل البعد عن تقدير أبنائه طبقا لكفاءاتهم ومزاياهم الفردية، ومازالت نظرته إلى أبناء البوابين والزبالين وحلاقى الأرصفة (لاحظ أنى أستخدم هذه المسميات لتلك المهن لأعبر بها عن المنظور الذى مازال ينظر به مجتمعنا العنصرى إلى هذه المهن الشريفة التى لاشك فى أنها كذلك)، مازالت نظرته إلى أبناء هؤلاء تختلف عن نظرته إلى أبناء الوزراء والرؤساء والمستشارين ومن فى مقامهم، رغم أنه قد يكون من بين أبناء المهن التى يصفها البعض بأنها «دنيا» أو «رقيقة الحال» والتى يصفها البعض الآخر أوصافا أقسى من ذلك، قد يكون من بين أبنائها من يتفوقون فى مواهبهم وقدراتهم وعلمهم على بعض أبناء أساتذة الجامعات أو أبناء السادة المستشارين! أو كبار رجال الأعمال!

والنتيجة العملية لهذه النظرة العنصرية هى أنها ستنعكس غالبا على التكوين النفسى والأخلاقى لأبناء تلك المهن (الدنيا)، فسوف يتصرفون وهم فى موقعهم الجديد (لو أنهم شغلوه) وهم يشعرون فى عمق أعماقهم بأن نظرة المجتمع إلى مهنة آبائهم مازالت تطاردهم كأنها اللعنة! ومن ثم فإننا لن نتوقع منهم فى معظم الحالات إلا واحدا من مسلكين: أولهما أن يحاولوا أن يبرهنوا ـ بمناسبة أو بغير مناسبةـ أنهم أفضل من غيرهم، أو على أضعف الإيمان لا يقلون عنهم!! وثانيهما أن يستسلموا للصورة التى يتصورهم بها المجتمع كأبناء لـ(الزبالين والبوابين وحلاقى الأرصفة)، ثم يتصرفون بالفعل طبقا لتلك الصورة! وفى كلا الاحتمالين سيفقدون الحيدة والموضوعية فى الحكم على الأشياء والأشخاص والوقائع!.. وهو متطلب أساسى فيمن يلقى على كاهله عبء النيابة أو القضاء!.. هل يعنى هذا إذن أن أبناء تلك المهن ينبغى أن يحرموا إلى الأبد من تولى مثل تلك الوظائف؟.. الجواب: كلا بالطبع، إذ إنه لابد لنا من مواجهة شجاعة لا تتغافل عن الواقع وتتعامى عنه، لكنها فى الوقت ذاته لا تستسلم تماما له، والحل الذى أراه ذو شقين أولهما بعيد الأجل يتمثل فى ضرورة وجود استراتيجية شاملة لإعادة صياغة ثقافة المجتمع تساهم فيها كل أجهزته ومؤسساته، وثانيهما قصير المدى يتمثل فى ضرورة إجراء اختبارات حقيقية صارمة لا تقتصر على البعد المعرفى وحده، بل تمتد إلى السمات النفسية لسائر المتقدمين لوظائف النيابة والقضاء، سواء كانوا من أبناء الشرائح (الدنيا) أو غيرهم. مع اعتبارهم جميعا معينين بشكل مؤقت، ثم متابعة أدائهم بمعرفة خبراء نفسيين ثقات، ثم استبعاد من لا تثبت أهليته النفسية منهم أولا بأول.

nassarabdalla@gmail.com