لكل منا «صورة الذات» الخاصة به. والتى تثبت الأيام أنها خاطئة! ذلك أن تلك النفخة من روح الله تحبب لنا الخير، وتجعلنا غير متوازنين إذا سلمنا لأنفسنا بالحقارة والضعة. لذلك تتدخل ميكانيزمات الدفاع النفسية لتوافق بين حقيقة ضعفنا وتوقنا المكنون إلى المثل الأعلى.
كل ذلك مفهوم. لكن ماذا عن تقييمك لشخص ما تعتقد أنك قد خبرته! وأنك نفذت إلى بواطن داخله! وأنك جربته فى المحن المختلفة! وفى كل مرة يخرج كالذهب، بعد امتحانه، بالنار بلا شوائب. فيتملكك الإعجاب بالبطولة، وتقول فى صدق: «هذا أفضل رجل رأيته فى حياتى».
صحيح أن عمر بن الخطاب حذرنا من ذلك. سأل واحداً عن رجل فأثنى عليه. سأله: «هل صاحبته فى سفر؟». رد: «لا». عاود الفاروق سؤاله: «هل جربته فى الدرهم والدينار؟». رد: «لا». قال الفاروق: «اذهب. فإنك لم تعرفه».
تذكرت كل هذا وأنا أشاهد فيلم «بين النجوم interstellar». منذ البداية وهم يؤكدون أن «مان Mann» هو أفضل رجل فى العالم. بفضل الوهج المنبعث منه، وتضحيته بذاته فى سبيل الإنسانية، ألهم اثنى عشر رائد فضاء أن يتبعوه إلى أصعب مهمة يمكن أن تخطر على بال بشر. يذهب فى الفضاء البارد. يبحث عن كوكب ملائم بعد أن استحالت الحياة على الأرض. فإذا كان الكوكب صالحاً للحياة أرسل إليهم إشارة، وإن كان الكوكب لا يناسب الحياة تحمّل قدره المحتوم فى شجاعة.
أريدك أن تتخيل معى! هل تتصور نفسك فى كوكب بعيد، وحدك تماما. تنتظر الموت المحتوم الذى لا مفر منه. هل تتخيل الساعة بعد الساعة! واليوم بعد اليوم! مستبطئاً الموت الذى لا يريد أن يأتى.
سوف نكتشف فيما بعد أن «مان»، الرجل الاستثنائى، أكثر البشر شجاعة على وجه الأرض، تحول بعد التجربة المريرة إلى أسوأ وغد ممكن. منذ اللحظة الأولى أدرك أن الكوكب لا يصلح للحياة، ولعدة أعوام ظل يقاوم غواية الضغط على زر الإشارة. لكنه فى النهاية ضَعف. أرسل الإشارة بأن كوكبه صالح للحياة. لتوجه موارد الأرض الأخيرة للذهاب إلى كوكبه القاحل، لمجرد أن ينجو بنفسه. ثم لم يكتف بهذا! بل حاول قتلهم. أنقى قلب فى الوجود حينما اكتوى بنار التجربة صار خسيسا حقيرا. أخبرهم أن المحنة غيرته كثيرا. غيرته بأكثر ما يستطيع أى إنسان أن يتحمل. كان يجهش بالبكاء وهو يطلب منهم ألّا يدينوه لأنهم لم يتعرضوا لتجربته.
.........................
ينصحنا الرسول ألا نتمنى البلاء، ولكن إذا وقع فالصبر واجب! ولقد كان الصحابة يتمنون لقاء العدو والشهادة، ولكن قليلاً منهم هو الذى ثبت فى غزوة أحد. ونزل الوحى العليم: «وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».
وجاء التابعون فقالوا للصحابى حُذيفة: «والله لو رأينا رسول الله ما تركناه يمشى على الأرض». فحكى لهم عن الهول الذى شاهدوه فى غزوة الخندق، حين كان صخر الجبل يطير من شدة الريح، والجو باردا جدا. والصحابة يدفنون أنفسهم فى الرمال يلتمسون دفئا. فقال الرسول: «من يذهب فيأتينى بخبر القوم ويكون معى فى الجنة؟». كررها ثلاثاً فلم يجبه أحد! فأمر حذيفة بالقيام فلم يعد من طاعة الله ورسوله بد.
الاختبارات صعبة. والنتائج غير مؤكدة. فلا تزهو كثيراً بطهارتك. فإنك لا تدرى هل تظل أنتَ أنتَ بعد التجربة أم تتغير!