نحنُ لا نتمسك بزيارة رئيس الجمهورية لألمانيا، ليس لأن ألمانيا بلد غير مهم، وليس لأن ملفنا فى حقوق الإنسان نظيف، وليس لأن الرئيس عشرة من عشرة، ولكن لأن المبدأ الذى نؤمن به: الشعب المصرى فقط، هو صاحب الحق الأوحد فى مساءلة الرئيس ومحاسبته، ولا يقبل أى شعب لديه إحساسٌ طبيعى بالكرامة الوطنية أن يُحاسَبَ رئيسُه من شعب آخر أو من برلمان آخر حتى ولو كان الشعب الألمانى أو البرلمان الألمانى أو أى جن أزرق فى أى بقعة من هذه الأرض.
هذا موقف مبدئى ثابت، لا يتغير بتغير الحكام، فلم أرحب بالتدخل الأجنبى الذى ساعد على خلع مبارك، ولم أرحب بالتدخل الأجنبى الذى رفض عزل مرسى، وأرفض أى تدخل أجنبى فى مساءلة السيسى. إيمانى الأكيد: الشعب المصرى كفيل بمحاسبة حكامه، يخلع من يشاء، يعزل من يشاء، يحاسب من يشاء.
فكرة الوطنية المصرية نشأت وتبلورت واكتسبت طابعها الأخلاقى فى المواجهة بين المصريين والأجانب من أجل استقلال الإرادة الوطنية، سواءٌ فى ذلك أن يكون الأجنبى هو: الخليفة العثمانى المسلم، أو نابليون الفرنسى، أو كرومر الإنجليزى، أو أوباما الأمريكى، أو حتى السفير الألمانى الذى تحدث مع الصحفيين المصريين فى دقائق وتفاصيل الشؤون المصرية.
ومن باب العلم بالأشياء أؤكد: الكثير من أقاويل السفير الألمانى، أو رئيس البرلمان الألمانى، أو الصحافة الغربية بأكملها، هى - فى مضمونها - محل نظر، وبعضها مقبول عندى، وأتمنى ألا تكون عندنا، حتى لا يأخذوها حُجة علينا. نشرت صحيفة خاصة أمس الخميس هذا المانشيت الكبير أعلى صفحتها الأولى: «السيسى يواجه عاصفة الإعدام فى برلين»، وتقريباً نشرت كل الصحف هذا العنوان: «ميركل تتمسك بدعوتها للسيسى».
تأخرنا فى رفض إتمام هذه الزيارة، لم يكُن من الحكمة أن نتجاهل أحاديث السفير الألمانى مع الصحفيين، ولم يكن من الحكمة أن نكتفى برد السفير المصرى فى برلين على إساءة رئيس البرلمان الألمانى لرئيس مصر، وليس من الحكمة أن نفرح بتصريح ميركل التى تقول إنها متمسكة بدعوة الرئيس.
أولاً: السفير الألمانى لم يتحدث دون علم السيدة ميركل نفسها، ولم يتحدث دون اتفاق مع كل سفراء الاتحاد الأوروبى فى القاهرة، ولم يتحدث دون تنسيق مع نظيره الأمريكى فى القاهرة، هذا موقف غربى جماعى، فيه تنسيق، وفيه توزيع أدوار، وفيه حصار جماعى للقاهرة ورئيسها. والمؤكد أن رئيس البرلمان الألمانى لم يوجه إساءته لرئيس مصر دون تنسيق مع مستشارته- وهما من حزب واحد- السيدة ميركل.
ثانياً: فى إطار هذا التنسيق الغربى، يجرى توزيع الأدوار: أمريكا تعطى الإشارات من مقعد خلفى أو من وراء ستار، ألمانيا تُكلف بإعلان المواقف الحادة وبلهجة عنيفة، فرنسا تعمل كجهاز تبريد فتعطينا السلاح الذى تمتنع عنه أمريكا لكن بإذن أمريكا، وبريطانيا هى أستاذة الغموض البناء الذى نفسره على كل المعانى والتأويلات، وتركيا تعمل كرأس حربة، وهكذا.
ثالثاً: عندما نرفض إتمام الزيارة، أو إرجاءها إلى وقت أفضل، فإن هذا لا يعنى الدخول فى صدام مع الغرب، فليس فى صالحنا أن نخوض فى وقت واحد أكثر من حرب على أكثر من جبهة، ولاتزال الجبهة الداخلية من الهشاشة بما يدعونا للتركيز عليها دون سواها. ولو فتحنا معارك متزامنة هُنا وهُناك فسوف نخسر هُنا وهُناك.
رابعاً: بغض النظر عن نوايا الغرب، فنحن أولى بنا وأجدر أن نُبادر من تلقاء أنفسنا، بتنظيف صفحتنا وسجلاتنا من كل الانتهاكات والتجاوزات فى ملف حقوق الإنسان.
خامساً: علينا أن نفرق بين الإخوان كمشروع سياسى يقوم على قاعدتين: الجماعة نقيضٌ للدولة، والتنظيم نقيضٌ للشعب، وبين حقوق المنتمين للإخوان، فهم مواطنون لهم ما للجميع وعليهم ما على الجميع.
آخرُ الكلام: الرئيس يمثل مصر ولا يمثل نفسه، الشعب المصرى- وحده- هو صاحب الحق الأصيل فى محاسبة الرئيس، وليس أى شعب آخر.