المستبد الجاهل

عمار علي حسن الخميس 21-05-2015 22:00

لم يُخلق على هذه الأرض شر مستطير أكبر وأكثر من الاستبداد، فما إن يطل برأسه حتى ينهش جسد المجتمع وروحه بلا هوادة، ليهز البنيان، ويقوض الأركان، ويترك وراءه خرابا فادحا، وعوزا قاهرا، وقهرا متغلبا، وهمما فاترة ونفوسا حائرة، وحزنا دفينا.

والاستبداد هو أحد أشكال الحكم المطلق، الذى يركز القوة أو السلطة فى يد شخص واحد أو أيدى حزب واحد أو جماعة واحدة. وتعرفه معاجم اللغة على أنه «الانفراد» و«الغلبة» و«الاغتصاب» و«الاحتكار» بما يخل بمبدأ المساواة الذى لا تستقيم الحياة من دونه، فإن أحيل الأمر إلى مجال السياسة كان هو الانفراد بإدارة شؤون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة من دون بقية المواطنين. أو تجريد الأمر من الحق الذى يؤسسه، ويقيم بنيان الحكم والشرعية، فتتحول بذلك السلطة إلى سيطرة، وعلاقة الطاعة إلى إكراه وإذعان

ولا يعنى الاستبداد فى كل الأحوال انتهاك الحاكم للقانون، أو قيامه بتحويل أفعاله وتصرفاته هو إلى القانون، إذ إن أغلب المستبدين يصنعون أو يرعون القوانين التى يقهرون بها شعوبهم، بل قد يعملون على إيجاد نظام قانونى شامل، وفق شرعية أو مشروعية شكلية، يتيح لهم الانفراد بإدارة كل ما يتعلق بالمجتمع.

وطيلة القرون الغابرة والعالم لا يعرف من الحكم إلا المستبد، تارة باسم السماء، وتارة بفعل الوراثة أو العرق والسلالة، وأخرى بالتغلب والقهر سواء بالجند أو العصبة. ويدعى المستبد دوما أنه الأكثر علما ومعرفة بصالح الجماعة، مع أنه جاهل لا يجيد حتى القراءة، وهو يزعم أن العوام يفتقرون إلى الشروط الضرورية لممارسة الحكم وليست لديهم القدرة على فهم الدوافع التى تجعل الحاكم يتخذ القرار على نحو يرونه هم استبدادا بالأمر أو تنكيلا بهم. كماد يدعى المستبد أن شعبه ليس مؤهلا بعد للديمقراطية، أو أن الظروف التى تمر بها الدولة تفرض هذا النمط من الحكم.

وبناء على هذه المسوغات لم يكن هناك حاكم ومحكومون على مدار قرون طويلة، بل مالك وأقنان، سيد وعبيد، سلطان ورعية، لا حقوق لها إلا ما يجود به من بيده مقاليد الأمر، ولا حريات لها إلا بقدر ما يغفل عنه أو يتركه عفوا أو استهانة.

والمستبد يمكن أن يتحكم فى الأمر ظنا منه أن هذا فى مصلحة شعبه.

وهناك عدة مداخل لتفسير الاستبداد، أولها نفسى، حيث يُعزى الاستبداد إلى نزعة السيطرة أو السادية التى يقابلها خضوع أو مازوخية لدى الأتباع. وثانيها نفسى- اجتماعى يضع عبء الاستبداد على المحكومين الذين يستسلمون للعسف والظلم إما عبر الإكراه أو الخداع، إلى درجة أن من يراهم أو يعايشهم يقول عنهم إنهم لم يخسروا حريتهم بل كسبوا عبوديتهم. وثالثها لا يعيد الاستبداد إلى سلوك فرد مستبد بل إلى البنية الاجتماعية التى تنطوى على عناصر اقتصادية واجتماعية غير متوازنة وغير متكافئة تتفاقم من الزمن ولا يلوح فى الأفق أى حل أو بادرة لإنهاء هذا الخلل إلا بثورة عارمة، فيسعى النظام السياسى أو تقوم السلطة الحاكمة باتخاذ ما يلزم فى سبيل الإبقاء على الوضع القائم وفرضه قسرا ومنع تفجيره.

وعموما حين أراد المستبدون أن يخففوا من وطأة بضاعتهم الثقيلة، ومنظرها الكئيب، فطرحوا شكلا شموليا لنظام الحكم، تسيطر فيه الدولة سيطرة كاملة على المجتمع، وتتحكم فى توجيه كافة الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولا تقبل أن يشاركها أحد فى هذا الدور، إذ إن الشموليين يشككون دوما فى التعددية التى هى أحد الأركان الأساسية للديمقراطية، ويستخدمون وسائل قمعية تجور على حرية التعبير، وتخنق الأفكار والآراء المخالفة لهم، بل يتحكمون فى تحركات الناس وتحديد مصائرهم الصغيرة، وتفاصيل حياتهم اليومية، واحتياجاتهم المتجددة.

الاستبداد هو السرطان السياسى، ولا تصدق المستبد حتى لو حدثك عن أنه سيصنع لك حياة أفضل، فهو سيجعلك تخسر عمرك ليزيد من عمر بقائه فى الحكم، جاثما فوق صدرك.