تنقسم الأفلام الطويلة فى مهرجان كان إلى خمسة أقسام: المسابقة ومسابقة نظرة خاصة وخارج المسابقة وعروض خاصة وعروض منتصف الليل. وفى قسم عروض خاصة عرض الفيلم الإسرائيلى «حكاية حب وظلام» إخراج ناتالى بورتمان التى لمعت فى السينما الأمريكية والعالمية كممثلة، خاصة دورها فى الفيلم الأمريكى «البجعة السوداء» إخراج دارين أرنوفسكى عام 2010، والذى عرض فى افتتاح مهرجان فينسيا.
«حكاية حب وظلام» أول أفلام ناتالى بورتمان كمخرجة، ومثل كل الأفلام الطويلة الأولى لمخرجيها فى جميع أقسام المهرجان وفى البرنامجين الموازيين يتنافس الفيلم مع 25 فيلماً للفوز بجائزة الكاميرا الذهبية، والتى تقررها لجنة تحكيم خاصة ترأسها هذا العام الممثلة الفرنسية سابين أزيما. والفيلم جدير بالفوز بهذه الجائزة، وكان جديراً بالعرض فى المسابقة.
كتبت ناتالى بورتمان السيناريو عن كتاب السيرة الذاتية للأديب الإسرائيلى الكبير آموس عوز الذى صدر بنفس العنوان وترجم إلى العديد من اللغات، كما قامت بتمثيل الدور الرئيسى، وجاء الفيلم إعلاناً عن مولد مؤلفة سينمائية بامتياز حيث عبرت بأسلوب شاعرى متميز عن رؤية إنسانية لحكاية الحرب والسلام بين اليهود والعرب فى فلسطين.
ومن المعروف أن آموس عوز من أهم المدافعين عن حقوق الشعب الفلسطينى، ويوصف بأنه «محامى» المطالبة بحل الدولتين، أى دولة للعرب وأخرى لليهود. وتتماهى ناتالى بورتمان التى ولدت فى إسرائيل عام 1981 مع رؤية آموس عوز الذى ولد فى القدس عام 1939. وتبدو هذه الرؤية بوضوح فى الفيلم، ولكنه بالطبع يظل فيلماً إسرائيلياً، وليس فلسطينياً، تماماً كما أن دعاة السلام من الطرفين يتفقون، ولكن لكل منهما ثقافته الوطنية.
صورة الفنان فى صباه
مع العناوين تحكى الأم فانيا (ناتالى بورتمان) لابنها الوحيد آموس (أمير تسلير)، وهى الحكايات التى تستمر طوال الفيلم، وكان لها دورها فى حب الصبى للحكى ثم ممارسته للأدب منذ شبابه. والفيلم عن السيرة الذاتية للفنان فى صباه، وعلاقته الوثيقة مع أمه فى مقابل علاقته الباردة مع أبيه آرى (جيلادكاهاناه) رغم أنه كان كاتباً وأديباً.
فى المشهد الأول نرى من يمثل دور آموس فى شيخوخته وهو يسير فى شوارع القدس العتيقة ويروى على شريط الصوت أن أمه مرضت وتوفيت وهى فى الثامنة والثلاثين من عمرها، وأنها كانت بولندية، وهاجرت مع أسرتها إلى فلسطين هرباً من اضطهاد اليهود فى أوروبا فى ثلاثينيات القرن الميلادى الماضى.
يتكرر مشهد الشيخ فى شوارع القدس عدة مرات فى الفيلم مع حديثه على شريط الصوت، حيث يقول عن المدينة الأسطورية التى ولد بها «القدس أرملة ترتدى السواد وتكره عشاقها». وينتهى الفيلم بالشيخ يواصل السير فى شوارع القدس.
يتكون البناء الدرامى للفيلم من افتتاحية ومقطعين وخاتمة، الافتتاحية عن الأم فانيا فى بولندا، ويبدأ كل من المقطعين الرئيسيين بلافتة مكتوبة: «القدس 1945»، و«29 نوفمبر 1947»، وهو تاريخ صدور قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، وحيث نرى اليهود يستمعون إلى التصويت فى الراديو (33 صوتاً مع التقسيم، و13 ضد، و10 امتناع عن التصويت). ولا يصل الفيلم إلى حرب 1948، ولكن فى الخاتمة مشهد يلتقى فيه الأب مع ابنه بعد سنوات من قراره بالرحيل عن القدس وترك أبيه بل وتغيير اسمه إلى آموس عوز، والحياة فى إحدى المزارع الجماعية (الكيبوتز).
يقول الشيخ بعد إعلان قرار التقسيم، وعلى مشهد فرحة اليهود فى الليل: «وبدأت الانفجارات فى السابعة صباح اليوم التالى». ويقول ملخصاً جوهر رؤيته للصراع: «أوروبا احتلت بلاد العرب وحرقت اليهود، ولكن العرب يرون أننا جزء من أوروبا». ويعبر الفيلم عن هذا المعنى درامياً فى المشهد الأول من مقطع «القدس 1945» حيث يزور آموس مع والديه أسرة عربية فى منزلها، ويقوم بدور الأب العربى الممثل الفلسطينى الكبير مكرم خورى، وفى حديقة المنزل يلعب الصبى آموس مع الصبية عائشة، ويقول «هناك متسع للجميع للحياة على هذه الأرض».
كتابة حرة بلغة السينما
ومثل كل عمل فنى أصيل يستمد الفيلم أهميته من أسلوبه، وليس من موضوعه، أو الرؤية الفكرية التى يعبر عنها. والأسلوب فى «حكاية حب وظلام» الذى صوره ببراعة سلاوميرإيزاك للشاشة العريضة بالألوان يقوم على ما يمكن أن نطلق عليه الكتابة الحرة بلغة السينما، أى التحرك بحرية وسلاسة فيما يبدو عفوياً ولكنه محسوب بدقة، بين الماضى والحاضر، وبين الواقع والخيال، فى لقطات ذات ألوان كابية لا تجسد التتابع الدرامى للقصة فقط، وإنما تعبر أيضاً عن الأفكار المجردة ورؤى ما فوق الواقع، مثل لقطة الذئب الذى يعوى فى البرارى كمعادل سينمائى لموت الأم، أو اللقطات الوثائقية المصورة بالأبيض والأسود للحروب بين العرب واليهود.
فى مشهد واحد سريع نرى أم فانيا بعد وصول الأسرة إلى فلسطين تثور على ابنتها قائلة «ما هذه البلاد التى جئنا للعيش فيها» تعبيراً عن سراب أرض اللبن والعسل الموعودة. وفى مشهد آخر تقول فانيا لزوجها بعد أن اشتد عليها المرض «تستطيع أن تفعل ما تشاء، ولن أغضب عندما تعود متأخراً فى الليل». والمشهد كاف للتعبير عن شخصية فانيا الحالمة التى كانت تتمنى الزواج من ضابط بولندى وسيم نراه فى الماضى وهو ينتحر بطلقة من مسدسه. وفى لقطة لا تتجاوز بضع ثوان يشاهد آموس والده مع امرأة أخرى فى مطعم، ولكنها كافية لتفسير العلاقة الباردة بينه وبين والده.
أسلوب الفيلم أقرب إلى الأحلام، وساهم فى التأكيد على ذلك استخدام الاختفاء التدريجى والظهور التدريجى فى الانتقال بين كل المشاهد، وتكامل العناصر الفنية من تصوير ومونتاج وميكساج وموسيقى وتمثيل، وخاصة ناتالى بورتمان فى دور فانيا المركب وأمير تسلير فى دور آموس الصبى، وهو اكتشاف مدهش. والفيلم ليس فقط عن حكاية الحب والظلام، أو حكاية الحرب والسلام بين اليهود والعرب فى فلسطين، ولكنه أيضاً فيلم عن الأمومة قل أن يكون له مثيل، ويبرز جمال السينما الذى ليس له مثيل.