حديث الثلاثاء.. سحارة جدتى

مي عزام الثلاثاء 19-05-2015 21:32

هل هناك من يتذكر السحارة؟ هذا الصندوق الخشبى الكبير الذي كان كثير من البيوتات العريقة تحتفظ به في حجرة النوم، كان للسحارة شكل مميز، فغطاء الصندوق لا يكون مسطحا بل أشبه بالقبة، وعلى جوانب الصندوق صفائح من النحاس الأصفر محفور عليها نقوش عربية يدوية، والبعض من تلك السحارات كان به حفر على الخشب فقط وعلى الجانبين مقبض نحاسى ضخم تحمل منه.

كان لدى جدتى لأمى سحارة كبيرة في حجرتها، كلما فتحتها تفوح منها روائح البخور الشرقية وتظهر منها قطع الملابس القديمة يدوية الصنع الموشاة بخيوط الذهب والفضة.

السحارة صندوق الذكريات وخزانة الثمين والغالى كانت تضم الكثير: وثائق مهمة، صورة من عقد زواجها وعقود زواج أبنائها، رسائل عائلية ودفاتر مدون فيها مصروفات البيت على مدى سنوات، عقود ملكية عقارات وحيازات أراض زراعية، تحف ثمينة من الفضة والعاج والأبنوس، صور أبيض وأسود، ملابس تعود لجدى وجدتى وفروعهما ارتدوها في مناسبات لا تنسى مثل الزواج والسبوع ومناسبات أخرى.

كلما ذهبت لزيارة جدتى مع أمى، كنت أحرص على التسلل لحجرة نومها وفتح خزانة أسرارها مرة ومرات.

تقفز أمام عيناى تفاصيل حياتها التي لم أعاصرها، ثوب زفافها الذي فقد بريقه يخبو بفعل الزمن، كان مطرزا بدقة بخيوط الفضة، كنت ألمسه برفق حتى لا يتمزق بين يدى، أما طرحة العرس فكانت عبارة عن أسلاك فضية طويلة من الجانبين يضمها طوق أشبه بالتاج الفضى. في قاع السحارة كانت جدتى تخفى ذكريات الأحبة الذين فقدتهم مبكرا، شريك عمرها وفلذة كبدها.

صورة جدى وهو جالس على مقعد الصالون المذهب وهي تقف بجواره لم أكن أستطيع أن أميز ملامحهما فالصورة بهتت وكادت أن تبلى، بعض من ملابس خالى الذي فقدته شابا وكانت حريصة على تعطيرها بصفة منتظمة، أستحضر حزنها الجليل عليه وحرصها على الاحتفاظ «بحاجة من رحته» كما كانت تقول: مسبحته الكهرمان وشاله الكشمير وعباءته الصوف وصورته وهو عائد من الحج. في السحارة عقود ملكية خضراء طويلة ملفوفة ومربوطة بشريط من الجلد، خلاخيل فضة وأمشاط شعر من الأبنوس مطعمة برقائق من الذهب البندقى.

أكثر ما كنت أستمتع به عرائس مصنوعة من القماش لا تعرف جدتى لمن تعود ملكيتها وكانت تسمح لى باللعب بها، أحتضنها وأشمها و... تستهوينى رائحة الزمن.

ماذا بقى من فكرة السحارة؟ الأشياء الثمينة نحتفظ بها الآن في خزنة الدولاب أو البنك، الملابس واللعب القديمة جدا يتم التخلص منها باعتبارها كراكيب، قطع الحلى التي ورثناها نبيعها لنشترى غيرها على الموضة، الرسائل الوردية ذات الخط المنمق والتى تحوى في طياتها وريقات من الورد والياسمين المجفف استبدلت بالشات والإيميل والفيس بوك والاستيكرات المتحركة، الصور الأبيض وأسود وحتى الألوان لم يعد لها مكان، فـفلاشة صغيرة كافية لحفظ مئات الصور العائلية.

سحارة حجرة النوم لم يعد لها مكان، استبدلناها بالجزامة فهى أكثر نفعا، بعد ضيق المساحات والقلوب.

لم يعد للذكريات وطن، الرؤية العملية للحياة مطلوبة ولكن تبقى أشياء تستحق أن نحتفظ بها لأنها تضفى على الحياة طعمًا وروحًا ليس لنفعها ولكن لقيمتها وجمالها مثلها مثل اللوحات الفنية الأصلية.

لماذا لا نستعيد فكرة السحارة؟ ليس المهم أن نشترى صندوقا ضخما نزحم به حجراتنا وبيوتنا الصغيرة، لكن لنحرص على أن نحفظ لأولادنا أشياء من رائحة الجدود، فالذكرى ليست مجرد تاريخ ولكنها ناقوس يدق في عالم النسيان وعبير جميل يبقى معنا لآخر الزمان.

ektebly@hotmail.com