الشفرة السرية للبيروقراطية المصرية «5»

سمير مرقص الثلاثاء 19-05-2015 21:53

(1)

فى معرض حديثه عن مشاكل «البيروقراطية»، أو «تراب الميرى»، أكد يحيى حقى على أنه «يحسن بنا ونحن نعالج كل يوم مشاكل اليوم (ولزمن ولود) أو نحن نحاول من جديد معالجة مشاكل قديمة لها ضغط ظاهر لا ينقطع وأثر لا ينبهم، لأنها لا تنفك تعترض حياة الناس ومعاملاتهم وتقابلهم وجها لوجه بصورة محددة المعالم: كمشكلة الروتين ـ 1961».. بلغة أخرى لا يمكن أن نتقدم إلى المستقبل والجهاز الإدارى المصرى العتيق قد تأسس ليكون فى خدمة كل من: الحاكم، والنظام الاقتصادى الذى «يُخدّم» على الحاكم والذى كان يتغير مع تغير أنظمة الحكم الوافدة بداية من البطالمة إلى العثمانيين، لذا باتت «البيروقراطية»، مع مر العصور أداة ضبط وتقييد وتعطيل وحصار وعقاب، والأهم «الجباية» أو جمع المال القسرى/ القهرى لصالح آخرين: إثنية حاكمة، أوليجاركية متسلطة.. إلخ، بشتى الصور.. وعليه أصبح الجهاز الإدارى: «عقدة العقد»؛ بتعبير يحيى حقى (1961).. وهو ما سنلقى عليه الضوء فى عرض تاريخى بانورامى سريع منذ محمد على: تأسيس الدولة الحديثة، إلى يومنا هذا: أى دولة ما بعد الاستقلال، مرورا بفترة الاحتلال البريطانى.

(2)

ذلك لأنه لا يُعرف ـ تاريخيا ـ «عمل فنى رائع أخرجه عقل إنسان مشوش مثل الجهاز الإدارى للحكومة عندنا. لو جمعت أئمة المكر والخبث والدهاء من خبراء البرجلة والتناقض والتعقيد والإبهام والغموض ـ وحاورينى يا طيطا ـ وطلبت منهم أن يدخنوا الجوزة حشيش كل صباح على الريق وأن يعملوا بصبر وتأن وأسكنتهم تكية تحتها ماخور لما قدموا لك بعد عمر طويل إلا مشروعا هيهات أن يفوق جهازنا فى البراعة».. ويدلل على ذلك بقدرة «الميرى» على خدمة السلطة الحاكمة ـ أى سلطة ـ وعقيدته «اللائحية» التى سطر نصوصها التعجيزية عبر الأزمنة. أو ما وصفته «بالتحور».. فالجهاز الإدارى هو الذى خدَم على الاحتلال الإنجليزى، وهو الذى خدَم على تنفيذ القوانين الاشتراكية وأساسها التأميم وقيام الحكومة بالإنتاج والتوزيع، وهو الذى تقدم الصفوف فى الفترة الانفتاحية.. حيث «الجراب البيروقراطى» ـ يسمح بالتجاوب مع كل نظام. ولكنه تجاوب ليس فى صالح المواطن.. ويشير ما سبق إلى أن الإدارة الحكومية التى تم تأسيسها مع محمد على من جهة، وما بعد الاستقلال الوطنى لم تستطع أن تتخلص مما علق بها تاريخيا وشكل ممارساتها.. ولهذا أسبابه.. فما هى أهمها؟.. نبدأ من محمد على وإصلاحاته الأولى ثم ما جاء به من جديد فى «السياستنامة».

(3)

بالرغم من التغييرات المهمة التى أدخلها محمد على فى بنية الجهاز الإدارى، إلا أن العناصر التى حملت عبء النظام الإدارى الجديد كانت هى ذاتها التى تدربت على ممارسة الإدارة فى ظل النظام العثمانى التقليدى القديم، فاضطر محمد على ـ بحسب المؤرخ الكبير العزيز الراحل النبيل رؤوف عباس ـ «أن يصيغ نظاما إداريا يتجاوز ـ بعض الشىء ـ منطق الجباية والأمن، إلى إدارة الاقتصاد وأعمال المنافع العامة، والخدمات.. فعمل على إنشاء ثلاثة تنظيمات إدارية كما يلى: أولا: «المجالس الاستشارية مثل: مجلس المشورة، المجلس العالى. وثانيا، الدواوين مثل: ديوان البحرية والمدارس البحرية، وديوان الزراعة، وديوان الجهادية، وديوان الجورنال، وديوان الدفترخانة (المحفوظات) ثالثا؛ المصالح مثل: مصلحة الحرير، ومصلحة البارود، ومصلحة الترسانة، ومصلحة المدابغ، ومصلحة المخابز، ومصلحة المسابك، ومصلحة المبانى، ومصلحة السكر.. إلخ.. وعلى الرغم من التوسع فى البنية الإدارية التى هدفت إلى تيسير العمل وهو ما تحقق بعض الشىء.

وهو ما تعكسه لائحة السياستنامة أو الوثيقة الأولى التاريخية التى اعتمدها محمد على فى تطوير النظام الإدارى وقد ضمت ثلاثة فصول. كان أولها عنوانه: «بيان الترتيبات الأساسية: ويتضمن النظام الإدارى السياسى. وثانيها يحمل عنوان: «عن بيان العملية» ويتناول الإجراءات الإدارية. وثالثها حمل اسم «عن بيان السياستنامة» وتضمن الإجراءات والعقوبات التأديبية.. إلى أن السياستنامة على حداثتها لم تمنع المركزية المطلقة، من جهة. ومن التداخل بين الاستشارى والتنفيذى من جهة أخرى. وعليه بقيت الهرمية المفرطة والسلطوية المركزية للحاكم ومن حوله. وهو ما تفاقم ـ لاحقا ـ بفعل حصار مشروع محمد على من قبل الغرب الاستعمارى وسلطة الباب العالى.. وفى معرض تقويمه للسياستنامة نوجز ما قاله رؤوف عباس فى الآتى: «لم تؤد (السياستنامة) إلى تحسين مستوى الأداء الإدارى بالقدر الكافى».. لماذا؟

(4)

أولا: فلقد كان البون شاسعا بين النص القانونى والممارسة الفعلية للإدارة. ثانيا: وبين الخطط التى تضعها الدواوين وما يتم تنفيذه بالفعل. ثالثا: شيوع الفوضى مع مرور الوقت بفعل التمييز بين الموظفين الأجانب وبين المصريين من جانب، والعجز عن دفع مرتبات الموظفين بانتظام ما دفعهم إلى التوسع فى تقاضى مبالغ تحت مسميات: الفردة، العوائد، وامتد الفساد إلى لجنة الشورى التى تراقب أداء الدواوين واستثمر أعضاؤها مراكزهم فى الإثراء غير المشروع.. ولم يتوقف محمد على عن محاولته لتطوير النظام الإدارى إلى أن رحل.. ولاشك أن لائحة السياستنامة كانت خطوة مهمة فى إقامة دعامة الإدارة المركزية ـ بحسب رؤوف عباس ـ والتى يبدو أن كل ما تلاها لم يستطع أن يخرج من إطارها.. ما فاقم الأمر مع الاحتلال البريطانى.. كيف.. نواصل.