رزقت هذه الدولة الشقية - إسرائيل - شهادة ميلادها بخطاب اللورد «بلفور» سنة 1917 الذى قرر أن بريطانيا تنظر بعين العطف لفكرة تكوين وطن قومى لليهود فى فلسطين.
ومع أن هذا التصريح جاء ممن لا يملك إلى من لا يستحق، إلا أنه على كل حال تضمن تحفظاً هو «ألا يمس ذلك مصالح السكان الآخرين».
ولم تكن فكرة السكان الآخرين لتخطر ببال الإسرائيليين الصهيونيين الذين تصوروا أن فلسطين ليس بها سكان، وقال ليوبولد فايز «قبل أن يعتنق الإسلام ويصبح محمد أسد، عندما كان مراسلاً يهودياً لإحدى كبرى الصحف الألمانية، إنه كان يتصور أن الفلسطينيين مجموعة محدودة من العرب الرحل»، وفى عام 1922 عندما كان مراسلاً لصحيفته فى فلسطين وكان عدد العرب يساوى خمسة إلى واحد يهودى، أشار إلى أوسيشكين رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية إلى مقاومة العرب.
فقال هذا «ليس هناك حركة عربية ضدنا، إن كل ما تظنه مقاومة ليس فى الحقيقة إلا صراخ عدد ضئيل من المشاغبين سينهار من تلقاء نفسه خلال بضعة أشهر أو بضع سنين على الأكثر»، وعندما لاقى حاييم وايزمان فى هذه الفترة نفسها وكان يتحدث عن المصاعب المالية، قال له وماذا عن العرب؟ فأدار وايزمان وجهه ببطء وقال وماذا عن العرب؟ فقال ليوبورد «إنهم الأكثرية»، فهز كتفيه وأجاب بجفاء «إننا نتوقع ألا يعودوا أكثرية بعد بضع سنوات».
وأغلب الظن أن وايزمان كان يعبر عما فى خلده من أن ذلك سيحدث نتيجة لسياسة الاستئصال التى سينهجها اليهود أو لإغراق الأكثرية العربية فى أكثرية أكبر من المهاجرين اليهود، ولكن تصوره أن ذلك سيتم خلال بضع سنوات يوضح أن فكرته ليست أفضل من سابقتها، ذلك أن الصهيونيين حتى قبل إعلان الدولة وضعوا سياسة الاستحواذ على الأرض بالقوة وقتل سكانها كما حدث فى مذبحة دير ياسين فى أبريل سنة 1848.
وظلت سياسة إسرائيل من ذلك الوقت حتى الآن تقوم على القبضة الحديدية قتل الأهالى بمن فيهم من نساء وأطفال، الاستيلاء على الأراضى ومصادرة كل موارد الثروة، وإقامة المستوطنات، ولم يتغير هذا أبداً إلا فى فترات لجأت فيها إسرائيل إلى الخداع والتظاهر بالتسوية، وإهدار الوقت فى مفاوضات عقيمة ليستأنفوا سياسة القبضة الحديدية، وإقامة السور العازل ومحاصرة الفلسطينيين.. إلخ، وبهذه الطرق وضعوا أيديهم على معظم الأراضى الفلسطينية وجعل العرب يعيشون فى كانتونات مغلقة، ومحاصرة غزة ووضع سكانها (مليون ونصف) داخل سجن كبير وحرمانهم من مصادر الطاقة.
وبالتالى توقف الآلات وسيادة الظلام واستخدام الشموع حتى وصلوا إلى حد المجاعة، ليس إلا صورة مجمعة عن الحكم الصهيونى للعرب من 1948 حتى الآن، وحدث هذا كله نتيجة للتأييد الأعمى والمطلق للولايات المتحدة التى قامت بتعطيل كل قرارات مجلس الأمن بإعلانها «الفيتو»، واستخذاء الدول العربية وضعفها ومتاجرتها بـ«القضية»، وانقسامات الفلسطينيين أنفسهم، نتيجة لهذا كله، وخلال خمسين عاماً من الصراع غير المتكافئ تصاعدت اتجاهات التشدد والعنف حتى وصلت إلى أعلى مستوياتها فى الفترة الراهنة، فقد كنا نعتبر أن ليفنى هى وارثة شارون وأنها الأسوأ حتى جاء نتنياهو فأثبت أنه أسوأ من ليفنى وبعد نتنياهو جاء أفيجدور ليبرمان ففاق الجميع وفرض فكرة الدولة اليهودية على السياسة الصهيونية.
وكلما كان يأتى وقت دفع الاستحقاقات والتوصل إلى التسوية النهائية، كانت إسرائيل تتمسك بفكرة الدولة اليهودية، وتصورت أن ذلك يخلصها من أكبر مشكلتين، المشكلة الأولى: عرب إسرائيل أى العرب الذين تمسكوا بأرضهم وظلوا فيها حتى بعد انتصار إسرائيل، ووصل عددهم إلى مليون ونص أى خمس سكان إسرائيل، وتريد الآن إسرائيل أن تخلص منهم بتقرير الدولة اليهودية التى تضع الدين محل المواطنة، وتفرض على السكان جميعاً قسم الولاء لإسرائيل وما يعنى هذا بالنسبة للعرب من القضاء على كل مقوماتهم وأن يخضعوا لكل ما تفرضه الدولة اليهودية عليهم وأن يصبحوا مواطنين من درجة ثانية أو ثالثة.
والمشكلة الأخرى: وهى الأكبر وهى حق عودة اللاجئين الذى تحميه مواثيق وقرارات دولية، ولو سمح به لكان فى ذلك القضاء المبرم على إسرائيل، فإذا كانت إسرائيل دولة يهودية فيفترض ألا يكون لهم مكان فيها، ويتعين البحث عن مكان آخر، وبهذا يخلو الجو للدولة اليهودية.
نقول لإسرائيل إن هذا كله عبث وباطل وهو أقرب إلى الأحلام منه إلى الحقائق.
إن المد الذى حملها عالياً وكفل لها كل أسباب القوة قد بدأ ينحسر، ومع انحساره ستفقد كل شىء.
هناك انتهاء حقبة بوش التعسة التى بدأت بالحروب وانتهت بالأزمة المالية، وأيدت إسرائيل بجنون، وأذاقت العالم كله الويلات.
هناك تغير الرأى العام الدولى، إن مجزرة غزة فضحت إسرائيل وكشفتها علي حقيقتها، دولة وحشية قمعية لا تحترم المقدسات ولا تفرق بين النساء والرجال والأطفال وتهدم المبانى بما فى ذلك مبانى الأمم المتحدة نفسها بمن التجأ إليها من الرجال والنساء والأطفال، ثم تأتى دعوة الدولة الدينية لتجعل إسرائيل تخسر دول العالم الحديث، لقد بدأت إسرائيل برواد كان لهم رؤى اشتراكية، ثم اصطنعت الديمقراطية وادعت أنها قطعة من أوروبا غرست وسط الشرق المتخلف، وهى تأتى الآن لتهدم هذا كله، لتكون دولة دينية تستلهم التوراة وتحل الدين محل المواطنة، فلماذا تتبرأ أوروبا من طالبان وبن لادن؟
فى نظرنا أن هذه كلها علامات على نهاية إسرائيل، وقد لا تصمد سوى عقدين من السنين، تفقد بعدهما سكانها، ويعود المهاجرون إليها،.. إلى بلادهم.
■ ■ ■
أمام إسرائيل فرصة للبقاء ولكن بصورة أخرى، وهى تحقق إرادتها ولا تتنافى مع التطور، ولا مع العالم المتمدن.
تلك هى أن تتحول إلى «فاتيكان يهودى»، والفاتيكان له وضع الدولة، ومن حقه أن يكون له سفراء يكون لهم وضع سفراء الدول الأخرى، وما يميزه عن بقية الدول هو أنه ليس له جيش.
وإذا كانت إسرائيل تعشق دينها وتريد منبراً له، فهذا هو «الفاتيكان»، فلا حرج إذا تكلم عن الدين لأنه تشكيل دينى يتمحور حول التوراة.
ومن الطبيعى أنه إذا حرم بعض اليهود حقوقهم فى دولة ما، أن يتصدى الفاتيكان لهذا ويطالب من منبره العالى العالم بإنصافهم، وفى الوقت نفسه فإنه لا يتطلب جيشاً ولا سلاحاً ولا بوليساً ولا يشغل إلا مدينة صغيرة.
إن قيام الفاتيكان هو الذى سيصحح غلطة التاريخ ومخالفة الجغرافيا، وسيجعل إسرائيل تستريح وتريح العالم بأسره من مشاكلها، وتعيد المياه إلى مجاريها وتقيم الأمور على أصولها، وتحقق الشرعية المنتهكة، وستعطى كل دولة مهاجريها، فهم أحق بها، وهى أحن عليهم.
رداً على حكم الأحداث:
تضغط الأحداث على الكاتب الذى يكتب فى صحيفة وتجعله يقدم أو يؤخر أو يضيف أو يحذف طبقاً لما تقتضيه الأحداث، وقد كان من حق الموضوع الرئيسى للمقال أن يأخذ مساحته كاملة، لولا أن الأحداث جاءتنا بخبر لا يمكن السكوت عليه لأهميته وللطريقة التى عرض بها، فقد نشرت جريدة «اليوم السابع» «مانشيت» على رأس الصفحة الأولى وبعرضها عدد «20/4/2009» يقول: «نواب الإخوان يدرسون تقديم قانون حد الردة فى البرلمان»، ويستطرد الخبر أن الأمر الآن يدور بين عضوين من أعضاء مكتب الإرشاد وأن المبدأ ليس محل نقاش، ولكن ما هو محل نقاش هو الوقت المناسب لتقديمه.
أقول لهؤلاء وأمثالهم متى تتعلمون؟
إن قضية الردة ليست جديدة وقد بت الإسلام فى قرآنه والرسول فى عمله بألا حد على مطلق الردة، فإذا أخذتم بحد للردة فكأنكم تأخذون بكلام عكرمة المتهم وترفضون تنزيل جبريل الأمين عن رب العالمين إلى سيد المرسلين، أليس هذا كفراً؟، إن عكرمة - وهو مولى ابن عباس - هو وحده الذى روى حديث «من بدل دينه فاقتلوه»، وقد رفض الإمام مسلم كل أحاديث عكرمة لما اتهم به، وهى شبهة تقتضى أصولياً وفنياً استبعاده.
وأشارت جريدة «اليوم السابع» إلى قانون سابق جاهز للردة وأوردت أقاويل استقتها من أحد الشيوخ، والحقيقة أنه لم يكن قانوناً.
ولكن «مشروع قانون»، وأنه وضع عام 1977 وقد أوردته «الأهرام» يوم 6/8/1977، وكان يقضى على ما جاء فى الأهرام بإعدام المرتد، وأن الردة تثبت بالإقرار أو بشهادة رجلين وتضمنت التفاصيل إذا كان «الجانى» على حد تعبير «الأهرام» قد أتم السابعة ولم يتم العاشرة فللقاضى أن يوبخه فى الجلسة أو يأمر بتسليمه إلى أحد الوالدين أو بإيداعه إحدى المؤسسات الاجتماعية، وإذا كان قد أتم العاشرة ولم يتم الخامسة عشرة يعاقب بضربه بعصا رفيعة من 10: 50 ضربة.. إلخ. وقد عقبت على هذا القانون فى كتاب «حرية الاعتقاد فى الإسلام» الذى صدر فى سبتمبر 1977.
«إن هذا القانون أمر لا يكاد يصدق!! ما هذا أيها السادة؟ هل أصابتكم جنة؟ أجماعة تكفير جديدة؟ هل تريدون أن تنصبوا محرقة أو أن تدخلوا فى الإسلام السمح محكمة بابوية يضع قضاتها العمائم؟» «أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً»، إن هذا القانون ردة تشريعية حقيقية لعلاج ردة إسلامية وهمية ولو صدر فسيكون لحساب المغفلين والجهلة وأعداء الإسلام!!
هذا ما قلناه سنة 1977 وها نحن وللأسف الشديد نكرره بعد أكثر من ثلاثين عاماً، «فاعتبروا يا أولى الأبصار».