(1)
أرضيات نظيفة، حوائط بألوان ورسومات مبهجة، أثاث حديث، طعام محترم، ملاعب مشمسة واسعة، صالات «جيم» حديثة، غرف مخصصة للدراسة، وأخرى للموسيقى أو الرسم، سوبر ماركت ضخم للتسوق، رعاية صحية على أعلى مستوى.
هذا ليس وصفاً لمنتجع في التجمع الخامس.. أهلاً بكم في السجون الهولندية.
هذا هو مستوى «ستاندارد» لأي مسجون، علماً بأن الزنازين مفتوحة طيلة اليوم، وعند كل مسجون في زنزانته تلفزيون بقنوات فضائية، ومشغل موسيقى.
أما مستوى «دريمي» الخاص بالمساجين ذوي التقارير المميزة، والذين قاربت فترتهم على الانتهاء، فيشمل المزيد من المميزات، مثل زيادة فترة الزيارة إلى ساعتين أسبوعياً، السماح بحصوله على «لاب توب»، حق السجين في الخروج لأي سبب، مثل أن يذهب لمقابلة في عمله الجديد، أو أن يذهب لاختيار منزله الجديد، والذي سيدفع مقدم إيجاره مما أدخره في السجن.
للوهلة الأولى قد يعتبر كثيرون في مصر أن هذا مجرد «دلع»، أو مثالية زائدة في دولة غنية ومرفهة، لكن الصورة الأعمق التي رأيتها في زيارتي إلى هناك، مع وفد نقابة الأطباء بدعوة من وزارة العدل الهولندية، أكدت لي أن كل هذا مدروس بدقة لتحقيق أهداف عملية بحتة.
تخبرنا الحارسة الهولندية أن أول شيء تعلمته على الإطلاق هو أهداف السجن، وأنهم يجب أن يكررو التفكير بها باستمرار كي لا ينسوها.
هدف السجن طبعاً هو «التهذيب والإصلاح» كما تقول عبارتنا الشهيرة، أن يتغير المسجون ليخرج إنساناً صالحاً منتجاً، فتقل نسب الجريمة.
بشكل عام نمط التفكير الغربي عملي للغاية، يبدأ بطرح الأسئلة الصحيحة حول أي مشكلة، لتجيب عليها الدراسات بأسلوب علمي بحت، ثم تتحول التوصيات إلى واقع عملي.
(2)
السؤال الأول: ما هي أسباب المشكلة (الجريمة)؟
قد تحدث الجريمة بسبب الفقر أو البطالة.
لذلك تشجع السجون الهولندية كل أنواع التعلم، يمكن أن يدرس علوماً أكاديمية، ومجهز لها قاعات دراسة بها كل شيء من السبورة إلى الإنترنت، ومسموح بدخول المعلمين من الخارج، كما يمكن أن يدرس حرفة كالنجارة مثلاً، ثم يمكنه ممارسة ما تعلمه وكسب الأموال، والإدارة تتولى تسويق منتجات السجناء.
الشهادة التي سيحصل عليها السجين، وتصريح العمل، لا تختلف مطلقاً عن أي شخص حصل عليهم خارج السجن، لن يقول له أحد «انت سوابق».
ومن أفضل الأفكار المبتكرة أن السجون تمنح الأولوية في احتياجاتها للسجناء، مثلاً بدلاً من شراء الأثاث من الخارج، يتم تكليف السجناء بصناعته وشراءه منهم، وأيضاً بدلاً من شراء كل المنتجات الغذائية جاهزة، يتم توظيف المساجين في العمل على صناعة وتعبئة ما يمكن منها.
لا تنتهي القصة هنا، فبعد إطلاق سراح السجين سيبقى تحت المتابعة، لو لم يجد عملاً سيحصل على إعانة بطالة، ولو لم يجد سكناً سيتم استضافته في بيوت إيواء مخصصة.
تقول الحارسة «على الأقل يجب أن يجد أي شخص في هولندا مكاناً دافئاً آمناً للنوم»
****
قد تحدث الجريمة بسبب الظلم.
يحتاج تفصيل نظام العدالة لديهم إلى كتاب لا مقال، سواء بشكل عام في بنية النظام سياسياً واقتصادياً وقانونياً ومجتمعياً، أو داخل السجن حيث الفلسفة كلها هي ألا يشعر المسجون أبداً أنه يتعرض لظلم أو إساءة بشكل غير مبرر، مما قد يولد داخله غضباً من المجتمع والدولة.
أكتفي بذكر موقف واحد يخص موضوع زيارتنا: الرعاية الطبية في السجون.
في سجن دين هاخ (لاهاي) أخبرتنا الطبيبة أنه إذا كانت حالة المسجون أعلى من امكانات مستشفى السجن- المرتفعة أصلاً- سيتم نقله خلال 7 دقائق فقط إلى أقرب مستشفى حكومي، وقرار النقل يصدره الطبيب، ويتم تنفيذه فوراً دون الرجوع لأي جهة أخرى.
وتابعت ضاحكة كأنها تقول نكتة: «هذه المستشفى يذهب إليها أيضاً أعضاء الأسرة المالكة، لذلك يمكن أن تشاهد في أحد الحجرات مسجوناً، وفي الحجرة المجاورة أميراً من العائلة الملكية»
هي لا تفهم مدى الصدمة الحضارية التي أصابتنا بها.
***
قد تحدث الجريمة بسبب الأفكار الدينية المتطرفة.
هنا يظهر الشيخ أحمد الحامولي، قابلناه في سجن روتردام، السجن الأشد حراسة، والذي يحتجزون به المتهمين بالإرهاب. الشيخ أحمد مصري مهاجر منذ 16 عام، بذلة أنيقة، لباقة وثقافة وخفة دم. أخبرنا أنالسجون متاح بها أي اختيار ديني، حتى ديانة الإنسانية «الهيومانتي» التي تم اختراعها حديثاً، ولكل ديانة مكان للعبادة ورجال دين.
لكن رجل الدين العامل في السجون دوره أبعد بكثير من الصلاة فقط، لذلك يجب أن يكون دارساً للعقيدة وعلم النفس والقانون، والشيخ أحمد يحمل 3 ماجستير في المجالات الثلاثة، ويُدرس للطلاب في الجامعة.
دوره الرئيسي هو الدعم النفسي والإجتماعي المستقل السري تماماً، ومن حق المسجون طلبه في أي يوم، يتناقش معه حول أسباب جريمته وأفكاره، وقد يساعده بتوصيل إعتذاره للضحايا، أو بالتوسط لحل مشكلة أسرية.
هذا العمل تحت بند السرية المطلقة بالقانون، حتى لو أخبر المسجون رجل الدين بجرائمه لا يجوز الإفشاء، والمحكمة لن تأخذ بشهادته، بل لو أخبر أي شخص بما عرف سيتم حبسه 6 أشهر. الاستثناء الوحيد هو لو أخبره المسجون بنيته ارتكاب جريمة قتل قادمة، هنا فقط سيبلغ من أجل ضمان العلاج النفسي المتخصص، لكن عليه أيضاً أن يخبر المسجون أنه سيفعل ذلك.
****
قد تحدث الجريمة بسبب الأمراض النفسية
هذا الجانب يحظى بأكبر قدر ممكن من الإهتمام الجاد للغاية، لا يكتفون بالأطباء النفسيين المعتادين، بل يتبع «وكالة مؤسسات الاحتجاز» أكاديمية متخصصة لتدريب الأطباء النفسيين للسجون، وهناك مستشفيات ومصحات نفسية داخل وخارج السجون، وكل المساجين يخضعون للكشف على حالتهم النفسية بمجرد دخولهم السجن.
الأمراض النفسية لا يقصدون بها الجنون فقط كما اعتدنا هنا، بل تشمل كل الانحرافات المؤدية للجرائم، مثلاً الشخصية «السيكوباتية» سليمة عقلياً تماماً، لكنه نفسياً ذو ميول للعنف والإيذاء، ويحتاج علاجاً.
(3)
السؤال الثاني: كيف نحل المشكلة؟ (التهذيب والإصلاح)
المفارقة الأبرز لديهم أن عملية «التهذيب والإصلاح» تشمل المساجين والحراس أيضاً.
فلسفة السجن كلها فيما يخص المساجين قائمة على أنه مصنع لإعادة تشكيل المواطن، ليصبح مندمجاً في النظام العام للمجتمع، لذلك مثلاً محاولة الهرب ليست جريمة، وليس لها أي عقوبة، «لأن وظيفتنا هنا أن نخرج إنساناً طبيعياً، والإنسان الطبيعي لديه غريزة الحرية، ولا نريد قتلها فيه».
ولنفس السبب كل أنشطة السجن و«الدلع» ليست متاحة بشكل مطلق، بل هناك اوقات محددة لكل شيء.
تريد أن تغسل ملابسك؟ إذن حدد أي يومين تريدهم، وبكل يوم منهما ساعتين مخصصتين لتذهب لغرفة الغسيل.
تريد أن تتعلم النجارة؟ تمارس رياضة معينة؟ ترسم؟ من حقك عدد كذا ساعات في أوقات كذا.
في النهاية يجد المسجون نفسه في نظام صارم بجدول دقيق اختاره بنفسه، ليعتاد على الإنتظام، وعلى قيم العمل الجماعي، واحترام شركاءه في المجتمع، وكل أنشطة السجن مصممة لهذا الغرض، حتى وجود مكان للطبخ المشترك لمن يرغب.
كأن السجن «بروفة» للمجتمع، لذلك قد يحصل السجين على خروج مبكر ومزايا إضافية لو ثبت نجاحه في هذا المجتمع الصغير، بما يؤهله للعودة صالحاً إلى المجتمع الكبير.
أما فيما يخص الحراس فنظام السجون كله مصمم للحفاظ على سلامتهم النفسية، كي لا يتحولواً إلى مرضى بالسلطة الممنوحة لهم، والحراس هم أصلاً مدنيين عاديين تقدموا للإلتحاق بالدراسة في أكاديمية متخصصة تابعة للوكالة.
منذ الخطوة الأولى كان لافتاً أن الحراس والسجناء لا يرتدون ملابس موحدة، قال مرافقنا أن الدراسات العلمية أثبتت الأفضل لنفسية السجناء والحراس ألا يرى كل منهم الآخر بملابس موحدة مميزة، مما يبعدهما نفسياً عن بعضهما.
ممنوع تماماً على الحراس حمل أي سلاح داخل السجن، ولا حتى العصيّ البلاستيكية، كي لا يشعر السجين بالتهديد، وكي لا يغوي السلاح الحارس بالتوحش.
كيف سيتصرفون لو تمرد مسجون؟ كل الحراس يداومون على «الجيم»، ويتدربون بدأب على رياضة «الجودو» القتالية، وبالتالي يستطيع الحارس في لحظة شل حركة المسجون قبل حقنه بالمهديء.
والسجن نفسه مصمم للسيطرة على أي تمرد، حيث يمكن أن يُعزل تماماً وبسرعة أي جزء منه، وهناك أبواب مزدوجة لا ينفتح الثاني إلا بعد إغلاق الأول بمفتاح منفصل، والسجن كله تحت رقابة الكاميرات والتحكم الألكتروني في الأبواب. هذه تجهيزات بسيطة ورخيصة، لكنها فعالة جدا.
الحفاظ على سلامة نفسية الحراس كانت له وسيلة مدهشة أخرى: ساحة معيشة الحراس، هي نسخة طبق الأصل من ساحة معيشة السجناء، نسخة حرفية حتى بنفس لون قطع الأثاث وبنفس الألوان والترتيب، ونفس الوضع ينطبق على التطابق بين «الجيم» الخاص بالسجناء والحراس. مرة أخرى أخبرونا أن الدراسات قالت أن هذا أفضل نفسياً لكلاهما.
ومكاتب الحراس بدورها متساوية، دخلنا مكتباً مشتركاً لأصغر الحراس، ومكتب مدير الحرس، ومكتب مدير السجن، كلها بنفس المستوى. رغماً عني تذكرت الفوارق عندنا بين مستوى العساكر والضباط، وبين مستوى الضباط أنفسهم حسب اختلاف رتبهم من الأعلى للأدنى. لدينا مصنع ناجح للغاية في انتاج دوائر القهر المتبادل.
(3)
السؤال الثالث: كيف نحافظ على استمرار حل المشكلة؟ «السيستم»
أولاً: الشفافية.. الزجاج الصلب.
أنا المواطن العادي، الأجنبي من دولة أخرى، تجولت مع رفاقي الأجانب داخل السجن، ومعنا هواتفنا المحمولة، والتقطنا كل الصور التي نريدها بالداخل (بشرط ألا يظهر أي مسجون).
أنا المواطن العادي، الأجنبي من دولة أخرى، بحثت على الإنترنت بكل بساطة عن موقع وكالة مؤسسات الاحتجاز الهولندية، فوجدت كل المعلومات الممكنة، ووجدت نسخة من كُتيب أنيق بالإنجليزية كانو قد وزعوه علينا أثناء الزيارة، يشمل أهم الأرقام التفصيلية التي تصل لعدد السيارات العاملة، بل عدد أرغفة الخبز التي يتم توزيعها يومياً.
مثلاً أنا أعرف الآن أن ميزانية الوكالة سنوياً 2.2 مليار يورو (حوالي 18 مليار جنيه)، تكلفة السجين في اليوم الواحد 261 يورو، ترتفع في المستشفى إلى 398يورو، لتصل إلى قمتها بمبلغ 574 يورو يومياً للسجناء تحت السن (الأحداث).
وبالمناسبة لا يمكن الاستسهال بتفسير أنهم دولة غنية، هذه التكلفة مرتفعة جداً حتى بالنسبة لهم، وقد كانت إقامتي في أمستردام بفندق جيد للغاية بتكلفة 75 يورو فقط في اليوم. الموضوع كما قلنا هو التعامل بجدية تامة مع أهداف السجن.
****
ثانياً: الإدارة بتوزيع السلطة.. لا آلهة صغيرة.
بشكل عام نمط الإدارة الحديث لا يترك السلطة المطلقة بيد أي شخص، مهما صغر أو كبر منصبه، وبشكل عام دائماً هناك آليات رقابة مستقلة فاعلة.
الخطوة الأولى هي في أن كل ما يخص السجون، بدءاً من كل الحراس والعاملين، وحتى سيارات الإنتقال بينها، تحت سلطة «وكالة مؤسسات الاحتجاز» وهي تابعة لوزير العدالة والسلامة بشكل مباشر.
ينتهي دور رجل الشرطة عند لحظة تسليمه المتهم للسجن، بل يترك رجال الشرطة أسلحتهم في السيارات، لأنهم كأي شخص ممنوع عليهم عبور بوابة السجن بالسلاح!
بعد هذا الفصل التام بين السلطات يأتي دور درجات الرقابة: مثلاً كفاءة الخدمة الصحية المقدمة للمساجين تخضع لرقابة من 3 جهات، هي إدارة المراقبة الصحية التابعة لوزارة الصحة، و«المحكمة التأديبية الطبية» المختصة بأخطاء الاطباء، أما لو كان لدى السجين أي شكوى فله حق التقدم بها لجهة ثالثة مستقلة تماماً عن الحكومة هي «مجلس إدارة العدالة الجنائية وحماية الأحداث» ويتشكل من ممثلي المجتمع المدني، ويضم قضاة سابقين، وأساتذة علم نفس واجتماع، وممثلي الجمعيات الحقوقية.
وبالمناسبة إذا تمت معاقبة السجين على مخالفة ارتكبها بالاحتجاز في زنزانة العزل- ومستواها أفضل من أفضل زنزانة لدينا، وبها جهاز تلفزيون!- فمن حقه طلب التظلم أمام نفس اللجنة، التي يحضر ممثلوها فوراً للإستماع لشكواه.
****
ثالثاً: النتائج.. هل ننجح؟
أي مؤسسة في العالم معرضة للتراخي والتدهور إذا كانت لا تخضع لتقييم نتائجها في تحقيق أهدافها، ومحاسبتها عليها.
النتيجة الأهم هي نسب العودة للجريمة، «في الماضي كنا نقول للمسجون وهو يرحل: باي باي، لا ترجع هنا مرة أخرى.. ثم عرفنا أننا كنا مخطئين، أصبحنا نتابعه لنساعده على العودة للمجتمع، ولنتعرف على خطأنا مبكراً لو كرر الجريمة، في الماضي كانت نسبة من يعود للجريمة 70%، أما الآن فهي 30%، ونتمنى أن نخفضها أكثر!»
عدد المساجين أيضاً ينخفض باستمرار، في 2013 كان عدد السجناء 13500 بينما عدد العاملين بالوكالة 15690، أي أن السجانين أكثر من السجناء، لذلك قاموا بتسريح الحراس. (ومن اللافت هنا أن نسبة الهولنديين 56.3% فقط، والباقي أجانب من جنسيات أخرى، منها الأتراك والمغاربة والمصريين).
في مارس 2014 أعلن متحدث باسم وزارة العدالة أن عدد السجناء انخفض إلى 9710 سجين، وعدد الحراس هو 9914.
نوعية الجرائم أيضاً انخفضت بشدة، 54% من السجناء يمضون أقل من شهر في السجن، 39% يمضون أقل من سنة، 7% فقط هم أصحاب الأحكام أكثر من سنة، ومنهم فقط 53 شخص عليهم أحكام الحبس المؤبد. (أعلى عقوبة في الدولة، فالإعدام ممنوع، لكن المحكوم يبقى لآخر حياته فعلاً، وليس 25 عاماً مثلنا).
لذلك بعض السجون الهولندية تم إغلاقها، مثل سجن «هيت أريثتوش» الشهير الذي خرج من الخدمة بعد 150 عاماً، ليتحول إلى فندق فخم نال شهرة عالمية، وحالياً تتفق الحكومة الهولندية مع النرويج لتأجير زنازينها الفارغة لسجناء النرويج الفائضين، لأن النرويج أصبح لديها أزمة في زيادة فترات الانتظار لقضاء الأحكام حتى 3 سنوات.. نعم، المحكوم عليهم ينتظرون، ولا أحد اقترح أن يتم تكديسهم وخلاص، وأيضاً لا أحد خاف من هروبهم.
هذا الأسلوب يثبت نجاحه التام، لذلك- ببساطة- يطبقوه ويطوروه، الموضوع ليس فقط إنسانية وأخلاقية، بل أسلوب ناجح بشكل عملي بحت.
أتخيل أنه لو كان قد ثبت أن ضرب المسجون على قفاه سيؤدي لعودته صالحاً للمجتمع، لنفذوا ذلك فوراً، مع عمل أبحاث حول تفاصيل مثل عدد الضربات المناسب بالضبط، والتدريبات المطلوبة للحراس، والحالة الصحية النفسية لكلاهما.
(4)
هذا ما يحدث في الدنيا، لكن «أم الدنيا» لديها رأي آخر.
أنا المواطن المصري لم أر في حياتي شكل السجون المصرية، لم أجد رقماً رسمياً عن ميزانية السجون أو عن عدد المساجين في مصر (في 2012 قدر مركز ماعت العدد بـ 50- 70 ألف)، أما نسبة عودة المساجين للجريمة فلا أظن أن هناك جهة رسمية ترصدها أصلاً، رغم أنها المعيار الأهم على الإطلاق في تقييم نجاح المنظومة.
أنا المواطن المصري لو تحدثت عن أسباب الجريمة والإرهاب، وعن ظروف السجون في مصر، من منظور إنساني واجتماعي ووطني بحت، سيخرج في وجهي ألف مُزايد، يعتبر ما نقول تبريراً للإرهاب، وسترتفع في وجهي ألف فزاعة «أنت إخوان».
في مصر موضوع «التهذيب والإصلاح» لا يوجد إلا على اللافتة الخشبيية القديمة، وأصناف سوء المعاملة أو الرعاية أكثر من أن تحصى، بدءاً من حالات التعذيب، وحتى النوم على الأرض على «البُرش»، مع طعام رديء، وظروف زيارات وتريض تختلف حسب مزاج السادة المسئولين، وكل أماكن الاحتجاز بشكل عام مُكدسة بأكثر كثيراُ من طاقتها، حتى أن بعض الزنازين يضطر ساكنوها لتبادل الأدوار وقت النوم، لأنه لا يوجد مكان كافٍ لينام كل السجناء ملتصقين.
أماكن الاحتجاز كلها تابعة لوزارة الداخلية، ولا يوجد جهة مستقلة للمراقبة، لا نتحدث عن منظمات المجتمع المدني المتهمة بالعمالة طبعاً، بل سقف طموحنا المحدود هو المجلس القومي لحقوق الإنسان، المعين من رئاسة الجمهورية، والذي ينتظر أعضاؤه أياماً وربما أسابيع لتسمح الوزارة بزيارتهم، أما نقابة الأطباء، الجهة المنتخبة الوحيدة الراعية للصحة في مصر، فلا تجد رداً على مناشداتها المتكررة، وتجاهلت الداخلية الدعوة التي وجهتها لها النقابة حين عقدت مؤتمراً مخصصاً للصحة في السجون.
ونتيجة ذلك ماثلة أمامنا، يعرف الجميع أن السجون هي المدرسة الكُبرى لتخريج المجرمين والمنحرفين، وأيضاً أصحاب الأفكار المتطرفة والعنيفة.
في هولندا أخبرنا الشيخ أحمد الحامولي بحزن أنهم من فترة استقبلوا وفداً من وزارتي العدل والداخلية من مصر، رحب بهم بشهامة المصري الأصيل، وعرض عليهم أن يترجم لهم البرنامج المعتمد في هولندا لعلاج السجناء المدمنين، وأن يتطوع بالسفر إلى مصر لتدريب مشرفي السجون مجاناً على أساليب مكافحة الإدمان، وهو تخصصه حيث حصل على واحدة من رسائله للماجستير في هذا الموضوع تحديداً.
فوجيء الرجل برفض قاطع وسخرية، «قالولي شكرا يا شيخ أحمد مش عايزين، إحنا الدنيا عندنا غير عندكو خالص!»
يتعامل المسئولون المصريون مع أي مقارنة بدول العالم المتقدم كأنها نكتة، كأن هناك شعوباً صالحة للعدل، وأخرى لا يصلحها إلا الاستبداد.
في أمستردام زرت متحف أدوات التعذيب، حيث احتفظوا بآلات رهيبة لا تصدق، كانت محاكم التفتيش تستخدمها للتعذيب حتى الموت ضد أي مخالف. احتفظوا بهذا المتحف المرعب، ليتذكروا دائماً أين كانوا، وما الطريق الذي قطعوه حتى وصلوا إلى ما هم عليه.
ليس صحيحاً أن شعباً بعينه يولد حاملاً صفات إيجابية أو سلبية، ولا يوجد دولة كانت طيلة تاريخها متقدمة أو متخلفة. «العيب في النظام».
(*) أثناء كتابة المقال عرفت بوفاة الدكتور فريد إسماعيل رحمه الله بغيبوبة كبدية، وذكرني ذلك بوفاة الشاب حسن شعبان في فبراير 2013 بغيبوبة سكر، أثناء احتجازه بسجن برج العرب بالأسكندرية، وكان معتقلاً من مظاهرة معادية للإخوان. الموت في السجون لا يفرق بين الاتجاهات السياسية...
(**) الصور المرفقة بالمقال منشورة بموقع وكالة مؤسسات الاحتجاز، لم أنشر صوري لأني التقطها بصفتي طبيباً في الوفد، ولم أستأذن إدارة السجن في نشرها صحفياً.