هل يصبح ابن رجل الأعمال مبدعاً؟

عمرو الزنط الجمعة 15-05-2015 21:17

سؤال الأسبوع الماضى الوجودى: يكون أو لا يكون.. ابن «الزبال» في كون القضاء المصرى. الوزير المقال كان يمكن أن يدافع عن نفسه، فيقول إنه كان يعبر عن واقع لا بد أنه مبنى على نوع من التوافق المجتمعى، وإلا ما استمر الوضع.. أما الضجة التي أثيرت في شأن هذا الموضوع، والتى تعكس ازدواجية وفجوة بين الكلام والقناعة، فهى التي تجعل، فعلاً، من الصعب التخلص من القيود التي تكبل التقدم.

من استطلاع رأى نشر يوم الخميس الماضى نكتشف أن ٨٥٪ من المصريين يؤيدون عمل أبناء عمال النظافة في القضاء. حسناً، لكن كم من هؤلاء إذا حكم مثل هذا القاضى عليه بالسجن لن يتهمه بأنه «أصله ابن زبال»؟ هذا هو السؤال الذي يجب على كل شخص يطرحه على نفسه، لأن الرد عليه ربما يجسد فجوة في أصل الكثير من مشاكلنا الحقيقية.

تخيل أن الوزير قال إنه لا يعتقد أنه من المناسب لابن رجل الأعمال (مثلا) أن يصبح قاضياً، لأن من المعروف أن رجال الأعمال في مصر من الفاسدين، وأن «ابن الوز عوام».. ربما كان سيتعرض الوزير لنقد من نوع «ليس كل رجال الأعمال...»، لكنه من المرجح أنه كان سيظل في منصبه، لأنه ليس «عيبا» أن نجهر بقول إن رجل الأعمال القوى فاسد.. بل ربما كنا سنجد في هذه الحالة البعض يؤيد الوزير على شاشات القنوات وسطور الصحف المملوكة لرجال أعمال أنفسهم (كهذه الجريدة)! فمن يفعل ذلك ليس لديه مانع من حضور الحفلات واللقاءات مع رجال الأعمال الأقوياء والتقرب منهم بالقدر الممكن، في نفس الوقت، فقد لا يحترم عامل النظافة بشكل كاف حتى يتحدث إليه بضعة ثوان كل شهر مرة، فيسأله عن صحته وحالة عائلته عندما يقابله ليعطيه راتبه الشهرى مثلا (أو ربما لا يقابله على الإطلاق لأن الـ«شغالة» أو الـ«بواب» هما اللذين يقومان بتلك المهمة).

الكثير من المصريين يريدون فعلياً التقرب ممن سيتهمونه بالـ«فساد» إذا كان قوياً، لكنهم سيبتعدون عنه «خطابيا» ويتخلون عنه إذا هوجم في المجال العام، وفى المقابل سينبذون عامل النظافة عملياً مع مناصرته خطابياً، نظراً لوجود نواحٍ «جمالية»، ومنفعية أيضا، في مناصرة الضعيف.. فمن نفس المنطلق المزدوج، يمكن أيضاً للناس أن يلعنوا «الدولة التسلطية» و«النظام الحاكم» لكنهم يعملون في الوقت نفسه للتقرب منهما ولا يحترمون بالفعل من ليس له مكانة فيهما، كعامل النظافة، الذي يحلو لهم امتداحه نظرياً لأن ذلك يعلى من مكانتهم «الأخلاقية»، فهذه مبنية في سبيل «الاستنفاع» منها في صراعاتهم اليومية- في سبيل التسلق!

هذه الازدواجية- عندما تعمم في مختلف مجالات الحياة فتصبح فطرة- من مصادر الشد والجذب التي تعمل على تفريغ المرء من «ذات» أصيلة، فتجعل من داخله فراغ مجوف ومن مشاريعه وأهدافه و«إنجازاته» مسخاً. ومن فقد ذاته هكذا لا يحترم الفرد الآخر لكونه بنى آدم مستقل إنما فقط بقدر الاستنفاع الذي يمكن أن ينتج من التقرب منه- بصرف النظر عن الشعارات التي يمكن أن توحى بعكس ذلك.

هذه الظاهرة من أهم ما يكبت الطاقات الخلاقة التي نحن في أشد حاجة إليها في سبيل التقدم.. فالمشكلة ليست فقط أن ابن الـ«زبال» من الصعب أن يصعد قاضياً، لكنه ككل مصرى مكبل بمنظومة مراقبة تعجيزية تسلب عن الفرد أي قيمة آدمية مستقلة عن صلة قرابته للسلطة، فحتى رجل الأعمال الكبير معرض للضياع إذا خسر غطاء السلطة، أما من يريد الصعود بانياً آماله على المبادرة الذاتية وقدرته على الابتكار والإبداع فيجد نفسه في وضع بائس فعلاً.. فنوعية الشخصية التي تصنع المعرفة- والحضارة المبنية عليها والاقتصاد المصاحب لها- لا تزدهر عندنا. مصر، في وضعها الحالى، ليست سوقاً حرة لحركة المال، لأنه مقيد بين أيادٍ معدودة ومكبلة، وكذلك ليست بيئة تزدهر فيها الأفكار وتطرح نتائج، نتيجة للنظرة الدونية بل الساخرة للمبادرة الذاتية، ناهيك عن المعوقات العملية، وليست مكاناً للحركة الاجتماعية من أسفل لأعلى.

في أساس المشكلة ازدواجية مسيطرة، تحتم التقرب غير المشروط من السلطة عملياً، والتعويض بتبنى شعارات معاكسة.. هذا الازدواج يؤدى إلى عدم مصداقية وتزييف بل محو للذات، ويجعل من مشاريع المرء، بل ومن حياته نفسها، مسخاً. عندما يكون هذا هو الوضع السائد لا يمكن أن يتقبل المجتمع بسهولة من تظل لديه روح الابتكار والإبداع والمبادرة الذاتية المستقلة. لكن هذا النوع من البشر الذي تقمع أحلامه الوليدة هو نفسه الذي نحتاجه للتخلص من الخمول والركود، ومن القيود التي تمنع الحركة الاجتماعية ومجتمع منتج وخلاق، بانى لمقومات الحضارة، فكرياً وعملياً.