فى البدء أعتذر للقراء الكرام عن عدم استكمال الحلقة الثانية فى سلسلة الحلول المقترحة للتعامل مع ما سميناه فى مقال سابق الأزمات السبع الكبرى التى تواجه الحكم الحالى فى البلاد، بسبب الأهمية والدلالات التى اكتسبتها ونتجت عن واقعة استقالة وزير العدل.
وقبل كل شىء، فإن الأكثر منطقية وقرباً للواقع هو أن السيد وزير العدل السابق لم يستقل بإرادته الكاملة، بل إنها طلبت منه ممن يملك أن يقيله، وهو ما تؤكده التصريحات المنسوبة له بعد الاستقالة بأنه لم يغير رأيه فيما ذكره من آراء لا يمكن وصفها إلا بأنها تمييزية، فهو غير نادم عنها ولا يشعر بالذنب بسببها، وبالتالى فليس هناك ما يدفعه إلى الاستقالة الطوعية. وفى كل الأحوال، فإن هذه الواقعة النادرة فى التاريخ السياسى المصرى خلال العقود الستة الأخيرة تعطى دلالات إيجابية مهمة وتستوجب أيضاً تطوير نتائجها فى صورة سياسات وإجراءات تؤكد هذه الدلالات بصور أكثر انتظاماً وثباتاً واتساعاً فى المجتمع والدولة.
فهذه الاستقالة، أو الإقالة، ليست فقط حدثاً نادراً فى التاريخ السياسى المصرى المشار إليه، ولكنها أكثر ندرة وربما هى الأولى من عدة زوايا. الزاوية الأولى هى أنها تمت بفعل قضية اجتماعية– دستورية وليس بفعل قضية سياسية خارجية أو داخلية كما كان الحال فى كافة الوقائع المماثلة النادرة. فلم يكن هناك بين الوزير أو ما قاله خلاف حول السياسة أو السياسات مع الدولة، بل كانت أزمته مع المجتمع وبالتحديد مع الأغلبية البسيطة والفقيرة منه. وهنا تظهر الزاوية الثانية، فلم يقل الوزير أو يستقل إلا بقرار من هذا المجتمع الذى اشتعل بالغضب من تصريحاته الصادمة والمرفوضة بكل المعانى الدستورية وأيضاً الإنسانية، ولم تكن الدولة بكل مستوياتها سوى مصدر القرار الذى صنعه واتخذه بالفعل بعد ساعات من تصريحات الوزير ذلك المجتمع الغاضب. وأما الزاوية الثالثة فهى أن الدولة لم تملك فى كل مستوياتها موقفاً سوى الاستجابة الفورية لذلك الغضب، الأمر الذى يشير إلى أن الإرادة العليا فى البلاد هى لشعبها وأن الدولة تقر بهذا وتقبله بل وتتصرف وفقاً له.
والحقيقة أن تلك الدلالات الإيجابية تستحق أن تحول الواقعة المهمة الإيجابية النادرة إلى سياسات وإجراءات منتظمة وثابتة ومنتشرة فى المجتمع والدولة. فالرأى العام، أو أغلبيته، له آراء كثيرة ومواقف معلنة من كثير من الإجراءات والشخصيات الحكومية، وهى معروفة ومستمرة حتى إن لم تكن بوضوح وغضب الموقف من وزير العدل، إلا أن بعضها يستحق استجابات فورية وإيجابية من مختلف مستويات الدولة بما يعيد للرأى العام قوته ودوره فى تشكيل الحكومة وسياساتها. أيضاً فإن الاستناد إلى بعض مواد الدستور المتعلقة بالمساواة بين المصريين وتكافؤ الفرص بينهم فى تلك الواقعة من جانب المجتمع للمطالبة برحيل الوزير ومن جانب الدولة لتبرير هذا الرحيل- يستوجب إعادة الاعتبار لكل مواد الدستور فى صورة تشريعات وسياسات وإجراءات تقوم بها الدولة.
أما الأهم والأكثر صعوبة فهو تحويل استقالة أو إقالة الوزير، بسبب آرائه التمييزية ضد بسطاء وفقراء المصريين فى تولى الوظائف العامة، إلى سياسات حقيقية لإزالة «السياسات» التمييزية القائمة بالفعل فى قطاعات رئيسية بالدولة منذ عقود طويلة وتحول، دون تصريحات إعلامية وفى صمت مريب، دون حصول أبناء هؤلاء البسطاء والفقراء على حقوقهم مع أبناء بقية المصريين فى تولى تلك الوظائف.
مشوار الألف ميل بدأ بالفعل بالخطوة الأولى المهمة والنادرة، ويبقى أن نستكمله، وإلا سيظل ما حدث مجرد واقعة مهمة ونادرة فى تاريخنا السياسى المعاصر وليس أكثر من هذا.