انتهت العملية الإيطالية ماري نوستورم، لإنقاذ المهاجرين غير الشرعيين من وسط البحر الأبيض، بسبب ارتفاع تكلفتها على سلطات البلد الأوروبي الذي سارع إلى دعوة باقي دول الاتحاد إلى تحمل مسؤولياتها في مواجهة زيادة الغرقي على سواحلها والمهاجرين المتكدسين في جزرها ومراكز احتجازها بانتظار انتهاء إجراءات اللجوء والإقامة على أراضيها، وذلك بعد أن انتبه العالم إلى الكارثة، إذ تقول منظمة الهجرة الدولية، إن قرابة الألفي مهاجر لقوا مصرعهم بسببها منذ بداية العام، وتتوقع أن يتجاوز العدد الـ30 ألفا بنهاية العام.
لا يبدو أن كثير من المسؤولين في الشاطيء الآخر يدري ما الذي يدفع هؤلاء إلى سواحلهم وكيف تسير رحلة الهجرة غير الشرعية، ولايبدو كذلك أن المهاجرين أنفسهم مقتنعين بما قالته المفوضة الأوروبية فدريكا موجريني، من أن الإجراءات الجديدة لاستيعاب الكارثة تتضمن تقديم محفزات للمهاجرين ليعودوا مرة أخرى إلى أوطانهم، فما لاقوه في مشوارهم يوضح أن احتمال الغرق أو الخطف كان مقبولا أمامهم في سبيل ما اعتبروه خلاصًا من أرض لم تعد وطنا بالنسبة لهم.
الطريق الطويل.. كيف ينتهي الحلم في مراكز شرطة البحيرة وكفر الشيخ؟
في ركن صغير بجوار مدخل مركز شرطة إدكو، أقيم على في مكان مؤقت لإيواء الناجين من ركاب مركب الهجرة غير الشرعية الذي غرق على ساحل البحر في محافظة البحيرة، السبت الماضي.
جلس مأمور المركز وبجواره ملف مكتوب عليه «الهجرة غير الشرعية»، يلاحظ انتباهنا إليه فيبادر بالقول: الموسم بدأ، ثم يسرد قصة انتشال الجثث التي وصل عددها حتى لحظة جلوسنا أمامه إلى 5 تم التعرف على 3 منها فقط، (سودانية ورضيعها وشاب آخر)، ويقول إن العدد مرشح للزيادة، لأن الفعل غير مجرم في القانون المصري والمهربون يزدادون عددًا والأزمة تتصاعد عالميًا.
التقيت واحدًا من الناجين وما إن سألته عن اسمه فضحك، ثم قال: سأفعل كما فعل المهربون المصريون، وقال أسماء مستعارة حتى لا نخبر السلطات بهويته.. «أنا أبوعمار»، ثم يُكمل أنه سوداني درس الهندسة الإلكترونية، ومع تزايد سوء الوضع الاقتصادي الذي وصل إلى انخفاض حاد في سعر الجنيه السوداني، قرر أن يبدأ في التجارة المحدودة، فكان يشتري الأحذية والملابس النسائية من القاهرة، ويعود ليبيعها في الخرطوم.
يضيف «أبوعمار»، كما سمى نفسه، أن الوضع استمر في الانهيار بعد تزايد الأزمات السياسية وانفصال الجنوب، حيث أصبح لا يشعر بكرامته في دولته.
يتذكر الشاب كيف وعده الوسيط بأن تتم العملية بسلاسة بعد أن رفع سعر الرحلة، لأنهم سينتقلون بأمان من السيارة إلى الباخرة مباشرة.
يشرد قليلًا ثم يقول متذكرًا، إنه التقى السيدة التي غرقت ومعها رضيعها وهي ترتدي ثوبا أنيقا وحذاء بكعب عال، وكانت تظن أنها رحلة آمنة.
يتابع: «كان الموج عاليًا، ولم يكن لنا أن ننزل، وحين بدأ واحد منا في الرفض وتحذيرهم من الغرق أخرج أحد المهربين سلاحه، وبدأ الآخرون في ضربنا ودفعنا لركوب قارب صغير لا يحتمل 15 فردًا، لكنهم وضعوا 45 شخصًا بداخله، وبعد دقائق انقلب المركب بنا، لكننا نجحنا بعد جهد في العودة، لكن الشمس كانت قد أشرقت فأخرجونا من المياه وأعادونا إلى مزرعة قريبة حتى لا ينكشف أمرنا، وعاودنا الكرة عند فجر اليوم التالي لكن الموج كان عاليًا، بدأنا في الصراخ حين انقلب المركب مرة أخرى، وحاول من يستطيع منا السباحة أن يساعد الباقين لنصل إلى الشاطيء بعد ربع ساعة ونجد أن المهربين اختفوا».
ونحن نتحدث يلاحظنا شاب آخر من الناجين، فيقترب ويتظاهر بالشرب من صنبور قريب، ثم يسألني بلهجة سورية إن كانت السفينة الأكبر قد ضُبطت، لأن أصدقاء وأقارب له كانوا على متنها، فأجيبه بأن سفينة عليها نحو 500 شخص قد ضُبطت فجر اليوم، لكن من عليها لم ينقلوا حتى الآن إلى أي من مراكز الشرطة القريبة.
يلاحظ حوارنا أحد أمناء الشرطة، فيتدخل ويعيد الشاب السوري إلى مكان الاحتجاز، فأعود لأسأل الشاب السوداني، إن كان قد حاول الهرب فينفي، مشيرًا إلى أنه لم يكن أمامهم إلا تسليم أنفسهم لحرس الحدود خشية الضياع أو الخطف وسط منطقة لا يعرفون فيها أي أحد.
أسأله في النهاية هل ستكررها فيضحك ويتردد قبل أن يقول: طبعا سأكررها.. لكن بعد فترة فلا مكان لي في هذا العالم الذي لا يحترمني.
«مهاجر إريتري نقلته عصابات التهريب من السودان إلى سيناء، لكنه وقع في أسر عصابة تهريب أخرى استعبدته لمدة عام كامل قبل أن تداهم القوات المسلحة مخبأهم فيُلقى القبض عليه، ويقضي أشهرًا أخرى في سجن الأجانب بالقناطر، ويتم ترحيله إلى بلاده، لكنه يعيد المحاولة مرة أخرى، ويُحتجز حاليًا في أحد مراكز الشرطة بكفر الشيخ.
يحكي محمد الكاشف، حقوقي في المبادة المصرية للحقوق الشخصية، القصة ليشرح كيف تحولت وجهة الهجرة غير الشرعية بالنسبة إلى الإريتريين والصومالين والسودانيين ومواطني جزر القمر من سيناء إلى الدلتا بعد أن زادت العمليات الأمنية في شبه الجزيرة، وانتشرت حالات الاستعباد والتعذيب والاختطاف بغرض الاتجار أو طلب الفدية أو الابتعاد عن الساحل الليبي بعد زيادة العمليات الإرهابية والتوترات في البلد المنقسم بين جبهتين، كما يشير إلى أن إعلان عدد من الدول الأوروبية ترحيبها باللاجئين السوريين على أراضيها دون تقديم تسهيلات لهم في التنقل والسفر تسبب في إقبالهم على الهجرة غير الشرعية، ويشير إلى أن الأمر وصل بالمهربين إلى تقديم عروض خاصة كنقل الأطفال دون العاشرة بالمجان، أو تقديم مكان لمن ينجح في اجتذاب 3 مهاجرين.
وصلتنا أنباء عن فوج مهاجرين آخر محتجز في نقطة شرطة فوة بمحافظة كفر الشيخ، فننتقل إلى المكان ويسمحوا لإيمان منصور، المحامية المتطوعة ضمن حركة التضامن مع اللاجئين، في الدخول إلى مكان احتجاز الفتيات والسيدات والاستماع إلى قصتهم.
ينتحي بي ضابط من القسم جانبًا، ويطلب مني أن نساعد المحتجزين في إنهاء أوراقهم لأنهم في النقطة لا يستطيعون التعامل مع الأمر، فإحدى المحتجزات كانت حاملا واضطروا لخروج مهمة ترحيلات لكي تضع طفلها في مستشفى قريب، ثم تعود والمكان النائي متواضع الحال لا يستطيع استيعاب احتياجات الوليد ولا الأم من متابعة صحية ولبن صناعي ومستلزمات، ولا سجانات سيدات للتعامل مع هذه الأشياء.
بعد دقائق تخرج المحامية وتخبرنا أن المكان رغم تواضعه وسوء إضاءته، إلا أنه ملحق به حمام يسمح للنزيلات بالحركة بحرية.
3 صوماليات، و3 من جزر القمر، و8 من إريتريا بصحبتهن 3 أطفال، ألقى القبض على الصوماليات قبل شهر، ورفضت فتيات جزر القمر الحديث مطلقا، بينما كشفت الإريتريات أنهن خطفن وتعرضن لحالات اغتصاب كاملة من جانب بدو احتجزوهن وطلبوا فدية 5 آلاف دولار على كل فرد دبرها الجميع، لكن شاب كان معهم لم يستطع تلبية طلباتهم فقتلوه.
تُكمل «إيمان» سرد ما قالته الفتيات، فتشير إلى أنهن لم يعرضن حتى الآن على طب شرعي لإثبات ما جرى لهن، لكن طبيبا عاديا زارهن مرة وحيدة وأعطاهن مطهرات فقط رغم سوء حالتهن الصحية.
تقول «إيمان»، إنها حين سألت الفتاة عن وليدها إن كان له علاقة بالاغتصاب فلم تجب، بينما تنهي إحداهن حديثها بأنهن طلبن من أهالي القرية الوصول إلى الشرطة لعدم علمهن بالجهة التي تركهن فيها المختطفون.