«بالسيف أو بالحيلة»، هكذا اقترح «أمير شعراء الرفض»، العظيم الراحل أمل دنقل، مطالباً باستعادة سيناء المحتلة من قبضة العدو «بالسيف أو بالحيلة»، وقتها لم يرتفع صوت فوق صوت «دنقل»، لم يتهمه اليسار بـ«الموالسة» ولم يعتبره اليمين «مفرطا»، ولم يسأل أحد عن «مصالح دنقل»، فقط صوبوا نحو الهدف، وقدروا أن زوال كارثة الاحتلال لن يتم إلا بالسيف و«الحيلة» معا، وقد حدث بالفعل.
الخلاصة: مات دنقل، وبقينا نحن نتحرك «داخل الحيط» ونترك السيف، ولا نستغل «الحيلة».
*
زميلي العزيز
زميلتي العزيزة
نحن زملاء في فضاء يضيق باستمرار، يسمى الصحافة، مهما تنوعت وسائل تقديم الخدمة الصحفية للجمهور، لنتفق على هذا أولاً، أما ثانياً فلنتفق سوياً على أن خطوطا فاصلة بين المهنة كعمل دءوب يمارسه الصحفيون وبين المهنة كأفكار محلقة في فضاء الحالمين من «سكان الحواف»، القريبين من المهنة بحكم الاهتمام، والبعيدين فعلياً عن التجربة.
لن أتحدث عن «رسالة الصحافة»، فهو أمر أصبح- للأسف- سيركاً للمزايدات، ولن أطيل في اعتبار الصحافة تعيش واحداً من أكثر عهودها تردياً وسخفاً وضغوطاً، وتتحمل أطناناً من عديمي الموهبة وحملة المباخر والمخبرين والشماشرجية والقطعان، فهذا أمر أصبح الحديث عنه اجترارا لفضيحة يومية.
لنتحدث عن شيء واحد أظنه يجمعنا، نحن نعمل في هذه المهنة، ومنها ننفق على أولادنا، أنا مثلا لديّ طفلة تدعى فيروز، هي مركز العالم بالنسبة لي، وكي أكون قادراً على توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لها، عليّ أن أشعر بقلق بالغ من واقع المهنة، خاصة وأنا أراها تتحرك تحت الأرض.
أعمل في مهنة مهمتها نقل المعلومات الموثقة لأكبر جمهور ممكن، أعي هذا جيداً، لذلك لن أحدثك عن «صراعات ما»، لكني باختصار سأتحدث معك عن مسألة أراها أكثر أهمية وحسماً.. سأحدثك – يا زميلي العزيز – عما يهددك أنت شخصياً.
*
تعمل في عدة مؤسسات في وقتٍ واحد لتوفير نفقاتك؟.. تتنقل مضطراً بين الصحف والفضائيات، بحثاً عن فرصة عمل كريمة، دون مظلة حماية قانونية أو نقابية لأبسط حقوقك؟.. تعيش قلقاً مضاعفاً من احتمالات فصلك أو نقلك أو العبث بالخيط الرفيع الذي بالكاد يمنع أسرتك من التهاوي تحت ضربات الغلاء؟.. لم تحصل في حياتك المهنية على ملايين بسبب نضال مزيف، ولم تصبح نجم إعلانات، ولم تتورط في قيادة تيارات سياسية أو إدارة فساد أو التطبيل لدم الناس المهدور في الشوارع، ولم تتمتع بـ«علاقات خاصة» توفر لك في الداخل والخارج «سبابيب» ضخمة؟.. إذن تعال لنتحدث بهدوء.
نحن عمال معلومات، بعضنا يتولى جمعها من مصادرها، وبعضنا يتولى «فرز القمامة»، وآخرون يتولون «رص البضاعة» في «الفترينة»، وهكذا دواليك.. أنت يا زميلي العزيز – مثلك مثلي – غطاس مجاري محترف، أو جامع قمامة كتشبيه أكثر دقة وأقل إثارة للغيظ.
في بلادنا لا قوانين تنظم تدفق المعلومات ولا القمامة.. لدينا فقط ترسانة رهيبة تعاقب على نشر المعلومة وإلقاء المخلفات حسب الحاجة، بالمختصر.. ليست لدينا «معلومات نظيفة»، ولا قمامة مرتبة حسب الأصول، لذلك نعيش - أنا وأنت والجمهور- وسط أكوام من النفايات في الشوارع، وأخرى من أفواه المصادر (الجاهلة أو المجهلة)، وتتلخص مهمتي ومهنتك في الجمع والفرز والتشوين والعرض بأقل الأضرار الممكنة، وأنت تتلوى كبهلوان سيرك محاولاً تجنب السياف الأعمى الذي يحرس كل هذا الكم من «الزبالة الوطنية»، ويعمد طريقه بالجثث والشعارات والجهل.
كي تفلح في مهمتك – ومهمتي أيضاً – علينا أن نقلق كثيراً على تدفق النفايات والمعلومات، علينا أن ندرك أنه لا مستقبل لهذه المهنة دون سقف مرتفع يمكننا من جمع النفايات من مصادرها المختلفة، وعلينا ألا نقف صامتين ونحن نرى سطح الأرض هو سقف الإعلام.
لا تلم أحداً حاول «اختراق» السقف، ولا تتوقف كثيراً عند الثقوب التي أحدثها زميلك في سقف نعيش أنا وأنت تحته (مهما علا صوتنا بالضجيج)، يمكنك أن تفكر وتحلل وتنظر كما تريد (فهذا جزء أصيل من تكوينك وواجب أصيل تجاه مهنتك)، لكن باختصار حاول أن تنفذ أنت من «الثقوب»، وتطمح لاختراق سقف أعلى كي نستطيع جميعاً التنفس في هذا المناخ الكئيب.
يمكنك بالتأكيد أن تفتش عن الخبايا (فهذا عملك)، ويمكنك أيضاً أن تظل للأبد في مرحلة البارانويا كصحفي تحول إلى مريض ونسي مهنته.. مهنتك يا عزيزي (وهي أكل عيشك أيضاً) تفرض عليك أن تتقدم خطوة للأمام.. مهنتك تقول لك إن «الجري في المكان» جريمة مهنية، وإن «الهري دون حركة» يجعلك تنسحب من قلب المهنة إلى الحواف، حيث لا شيء حقيقيا سوى الوهم الخالص.
تخبرني الآن أن هناك صراعات داخل الدولة؟ سأخبرك أن هذه الدولة، ومنذ 7000 عام، هي محصلة لصراعات القوى أصلاً، وجزء من مهمتك أن تكشف هذه الصراعات.. ستسألني عن الأسباب وراء كل كلمة؟ سأسألك عن منجزك الشخصي بخلاف «طق الحنك»؟.. ستحدثني عن ضرورة التوقف فوراً عن أي محاولات لرفع السقف، انتظاراً لتحليل ما يجري! سأقول لك توقف أنت.. أما أنا فسأستغل كل فرصة لرفع سقف مهنتي، سأفكر طويلاً في الأسباب نعم، وأتقصى خلف كل «تسريبة» نعم، لكن بوصلتي لن تتوقف ويدي لن تغرق في الشلل وترضى بالتنظير بديلاً للصحافة.
زميلي العزيز
زميلتي العزيزة
نعمل وسط «بنية استبداد» تحاصر المهنة، وتخنق الصحفي، وتمنع المعلومة، وترغب في تحويلنا إلى حشرات تزحف تحت الأرض. هذه معضلة نعم، وبتقديري أن المعضلة هي مشكلة لها ألف حل، من ضمن هذه الحلول ألا تقف ساكناً، أن تجبر الوسط الصحفي على استعادة قيمة تجارية يفهمها كل صاحب جريدة، قيمة المنافسة، فلا يليق أن يتقدم زملاؤك للأمام محاولين إحداث ثقوب في جدار العتمة والقهر (مهما كانت الأسباب)، بينما تترك أنت الساحة وتتفرغ لتأمل الثقوب وقياس أسبابها.. تأمل ما تشاء، وحلل كما تشاء (فهذه وظيفتك أيضاً)، لكن نصيحة مخلصة لا تتردد أبداً إن سنحت لك الفرصة لإحداث اختراق أكبر، ولا ترتعش وتصاب بالشلل التنظيري، حين تصبح أمامك (بالسيف أو بالحيلة)، فرصة ليبتعد سقف المهنة عن سطح الأرض ولو سنتيمترا واحداً.
لا أرفض حماسك لمتابعة الصراعات (فهذا جزء من كونك صحفيا أصلاً)، ولا أرفض أي حلول أخرى لرفع السقف وتوصيل معلومات أكثر للناس (فهذا دفاع أصيل عن كونك إنسانا قبل أن تكون صحفياً).. فقط تحرك، ولا تترك الهواجس تأكلك، فتموت مرعوباً ومتسائلاً في مكانك.. لا تقف متفرجاً على مهنتك (التي من المفترض أن تغار عليها)، بينما يأكلها الأرزقية والأنصاف والشماشرجية وحملة المباخر والفاسدون وأكلة السحت.. تحرك لتجبرهم أن يصبحوا دائماً في موقع القلق.. اخترق السقف لكي تكشف تناقضاتهم وفسادهم ومصالحهم المتعارضة.. تحرك يا زميلي العزيز، فكلما انخفض السقف كلما كان موتك عادياً ولا يثير حتى الشفقة.
*
في الإنجيل «لا تدخلنا في التجربة لكن نجنا من الشرير»، وفي التراث الإسلامي «اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين»، أما أنا فأقول لك إن التجربة هي الصحافة، والظالمين لا يهلكون بالظالمين، بل يتعاونون معهم في نهاية الأمر ضدك أنت. أما فكرة «الخروج بسلام من التجربة» فلا تعني أبداً أنك بالفعل قد نجوت من الشرير.. فالشرير يا عزيزي يمنع تدفق القمامة والمعلومات أيضاً، وواجبك أن تدخل معه في «ألف تجربة» وتجبره أن يخشى خطوتك التالية.