لا تبحث عن «غربال» بلا ثقوب

جمال الجمل الخميس 07-05-2015 12:58

«ثقوب فى الإعلام»..

تأملت العنوان المقترح لهذا الملف باحثا عن زاوية جديدة للكتابة فى المعضلة المجلجلة، دفعنى التأمل إلى الابتسام لأن أول فكرة خطرت على بالى، هى أن «الثقوب» أساس الوظيفة التى يقوم بها الإعلام، فهو ليس «وعاء مصمتا» بل «غربال»، وبالتالى فإن محاولة سد الثقوب، هى أشبه بمحاولة ذاتية لتحويل غربال إلى صينية طعام!

قد يكون التشبيه خفيفا (أو سخيفا) لا يتناسب مع أزمة جادة وحادة، ومحل شكوى من الجميع، (السلطة تشكو، والناس تهجو، والإعلاميون أيضا متذمرون)، لكننى أقصد هذه الخفة، وأتعمد هذه السخافة، بل «أنتوى» هذه المرة أن أدافع عن الإعلام (قصدت استخدام كلمة «أنتوى» بما تثيره لديكم من تداعيات سياسية)!.

أذكر أننى بدأت كتابة المقالات فى «المصرى اليوم» بزاوية حملت عنوان «ثرثرة»، لأننى كنت أركز فيها على تحليل ونقد الخطاب الإعلامى من واقع خبرتى الخاصة بمشاكل وأمراض المهنة، وبعد المقال الأول الذى حمل عنوان «خليك قدها»، وكنت أقصد الكلمة المكتوبة، نشرت سلسلة مقالات تحت عنوان «سر العلاقة بين جمال مبارك ونانسى عجرم»، سخرت فيها من توسع الصحف فى استخدام المبالغات، والالتباس، والغموض، والتورية، والمجاز، والعناوين المضللة، كأدوات لجذب القارئ.

هذا حقى كصحفى (أو ككاتب) يسعى للانتشار، وترويج بضاعته ليكسب أكبر عدد من القراء، ليس بغرض التأثير فى ذلك القارئ وفقط، ولكن لأسباب اقتصادية تتعلق بزيادة أجرى، أو اقترابى من الشهرة، وأيضا من ملاك الثروة والسلطة!

نفس الدوافع التى حركتنى موجودة لدى الصحيفة كمؤسسة وأفراد، وموجودة لدى السلطة بكل أشكالها ومستوياتها، وموجودة لدى القارئ أيضا، كلنا نسعى لاستخدام الإعلام بما يحقق مصالح شخصية بالدرجة الأولى، وفى مراتب لاحقة يأتى الحديث عما نسميه «قواعد المهنة» أو «ميثاق الشرف الصحفى أو الإعلامى» أو «الدور الثقافى والسياسى والاجتماعى»، أو «المصداقية» أو حتى تعبيرات من نوع «الأكثر انتشارا» أو «الكبرى» وما إلى ذلك من أوصاف وأدوار تستخدم كأقنعة لإخفاء الدور الأساسى والمحورى للإعلام (أى إعلام فى العالم) وهو «التأثير»!

هذا «التأثير» هو جوهر الإعلام وهدفه، وبالتالى فإن «الإخبار» و«التثقيف» و«التسلية» و«التفاعل» وأى وظيفة أخرى للإعلام تصبح مجرد أداة لتحقيق «التأثير»، ولا أقصد ظاهر الكلمة، بل المصطلح الإعلامى الذى يتجاوز مفردات مثل: «bearing» و«effect» و«action» و«influence» و«impact»، إلى مصطلح «manipulation» وهو يعنى التضليل، والإيحاء باستخدام الخداع، كما يفعل الحواة للتأثير على المتفرجين.

وكنت قد شرحت فى مقال لى بعنوان «مزرعة الأكاذيب» http://www.almasryalyoum.com/news/details/710666 قصة «إدارة التأثير الإعلامى» التى أسسها وزير الدفاع الأمريكى رونالد رامسفيلد للتضليل والتحايل ونشر الأكاذيب كسلاح يستخدمه البنتاجون فى فرض السيطرة من خلال ما عرف عالميا باسم «الفوضى الخلاقة»!

هذا الأسلوب (التحايل والكذب)، هو التطور الحضارى الذى «انتويت» منذ البداية أن أشيد به، فـ«قاطع الطريق» أصبح أكثر إنسانية ويريد أن يتحول من «قاتل» إلى «نصاب»، طالما أن النصب يحقق هدفه فى سرقتى وسرقتك دون ضجيج!

كانت السلطة التقليدية القديمة تركز على القوة والقهر كوسيلة لفرض السيطرة، لكنها اكتشفت أن الكذب والتضليل أقل كلفة وأكثر أمنا، وبالتالى فإن «تطويع الجماهير» أفضل من قمعها، وهنا تعمقت الحاجة للإعلام الكاذب كأداة فعالة فى التحكم، والسيطرة على الشعوب (يفضلون الآن مصطلح «توجيه الشعوب» بدلا من السيطرة عليها، وهذه الميزة لا تتاح إلا للشعوب التى تعلمت «اللماضة» وتشكلت لها إرادة، حسب نظرية المفكر البرازيلى باولو فريرى صاحب كتاب «تربية الحرية».

لا شك أن التضليل أرحم من القتل، لكننا لن نقبل أن يكون نهاية التطور، فالأمل فى المستقبل يدعونا لإصلاح الإعلام وتخليصه من آفة النصب والخداع، بشرط ألا نسد أمامه طريق التوبة ونضطره أن يعود للقتل على طريقة «جعلونى مجرما»، وهذا يقتضى أن يعتمد على ذاته ويجد عملا شريفا بعيدا عن هيمنة السلطة، سواء كانت سلطة قوة، أو مال، أو عقيدة أيديولوجية ودينية..

لكن كيف يحدث ذلك؟

قبل سنوات كان هذا التفكير خياليا وغير واقعى، لكن ثورة التواصل الاجتماعى حققت لنا هذا الخيال، وصار بإمكان أى فرد أن يتحول بضغطة «ماوس» إلى منبر إعلامى ينشر الأخبار والمعلومات والتعليقات، ينتقد ويسخر، ويعبر عن رأيه، ويستعرض صوره بحثا عن الشهرة والتأثير، وأكبر قدر من الأصدقاء و«اللايكات».

لكن كيف كانت النتيجة؟، وهل اختلف أداء «اليوزر» الفرد، عن أداء المؤسسات المرتبطة بالسلطات المتعددة؟

نظرة سريعة على مشاركات الجمهور فى موقع مثل «فيس بوك» تقدم لنا إجابة صادمة وكاشفة للأوهام، فمعظمنا يمارس نفس سلوكيات الإعلام الفاسد، نروج الأكاذيب، ونبالغ، ونتراشق، ونتسرع فى الأحكام، ونسعى لفرض السيطرة بالقمع والتهديد بالحظر، أو من خلال التحبب والاحتيال: هتموت من الضحك.. فيديو قنبلة.. شاهد صورة زوجة الفنان فلان (رائعة الجمال).. فضيحة اللاعب س.. أنا لبنانية وحيدة وأريد أصدقاء... وأكاذيب كثيرة أخرى تصادفونها بانتشار ملحوظ.

الكذب إذن ليس احتكارا سلطويا، بل يبدو كثقافة إنسانية عميقة الجذور، ألم تغن يوما من الفلكلور: يا طالع الشجرة هاتلى معاك بقرة، أو «يا ليل يا عين ما اعرفش أكدب، الضفدعة شايلة المركب، والقط الأعمى ريسها، وأبوفصادة حارسها»!!

المشكلة فى الإعلام إذن ليست فى السلطة وحدها، وليست فى الإعلامى وفقط، لكنها فى الجمهور أيضا، فالمتلقى يمارس نفس الخطايا الإعلامية كلما أتيحت له الفرصة، وهذا ما أوضحه قبل عقود خبير الإعلام الأمريكى هربرت شيللر منذ عقود، عندما قال إن المشكلة ليست بين من يملكون ومن لا يملكون، لأن الأدوار تتغير دائما بين الحاكم والمحكوم، وهذا يتم فى هدوء من غير انقلابات ثورية عنيفة، ففى حين نتحدث عن الحرية والديمقراطية نكتشف أن الواقع يقدم كل يوم المزيد من «المسيطرين الجدد»، بحيث يصبح بعض ضحايا التضليل الإعلامى أنفسهم، من كبار ممارسى هذا التضليل، وبحيث يصبح المتلقى الذى كان يخضع سابقا للأوامر هو نفسه الذى يصدر الأوامر التى كان يتضرر منها.

أعتقد أن هذا المدخل ينقل الحديث عن أزمة الإعلام من النظرة الخارجية المتعلقة بتنظيم التشريعات، وتحجيم دور السلطة وترشيد سيطرتها، إلى نقطة أعمق تتعلق بثقافة المجتمع وعقلية المتلقى، وأهمية النقد الذاتى فى تحديد جوهر رسالة الإعلام الذى نريده، ونوعية الضوابط والشروط التى تحقق لنا ما نريد.

إذا اتفقنا فالطريق طويل، ويجب أن نبدأ الخطوة الأولى فوراً، وهى بالمناسبة تحت قدمك أنت، وليست فى يد السلطة (أى سلطة).