إعلام برخصة

إبراهيم الجارحي الأحد 03-05-2015 21:44

وقف صديقى الباكستانى فى شرفة فى الدور العشرين من شرفات ذلك الفندق على النيل يتأمل زحام الكورنيش وما تيسرت رؤيته من هذا الموقع من كبارى قصر النيل وأكتوبر ومايو وكوبرى عباس.. شخص ببصره فى تلك الفوضى الفاضحة التى تتميز بها شوارعنا عن شوارع العالم كله، ثم التفت إلى وسألنى: ألديكم فى مصر نظام لرخصة القيادة؟ هل تختبرون السائق قبل أن تسمحوا له بقيادة سيارة؟

انتابتنى على الفور حماسة الحمية الوطنية التى تضع كل مصرى فى وضع الدفاع دائما عن بلده فى أى حديث يدور مع أجنبى، وأجبته أننا لدينا نظام لرخصة القيادة بالطبع.. ويبدو أنه لاحظ غضبتى، فقال ببساطة: عندنا فى باكستان لا يوجد نظام للرخصة.. يمكن لأى شخص أن يقود سيارة ما دام لديه مفتاحها!

تذكرت هذه الواقعة وأنا أراقب ساحة الإعلام المصرى فى المرحلة الحالية، وانتابتنى مشاعر لا تختلف كثيرا عن مشاعر الصديق الباكستانى، وخطرت برأسى تساؤلات شبيهة عن مؤهلات هؤلاء الإعلاميين الذين يقودون آلات أكثر خطورة من السيارات يخلقون بها الفوضى فى الشوارع، تماما كهؤلاء السائقين الذين حولت قيادتهم شوارعنا إلى حديقة حيوان مفتوحة، ويسببون كوارث لا تقل فتكا عن حوادث الطرق.

لا أتساءل فقط عن المؤهلات الفنية، التى تعتبرها أى مؤسسة إعلامية فى العالم حدا أدنى لتوظيف الصحفيين والإعلاميين بشكل عام، كإتقان اللغة وإجادة مهارات الكتابة والإعداد والتقديم وإجراء المقابلات للأغراض الصحفية، فهذه من المؤكد أنها رفاهيات لا تقترب منها مؤسساتنا الإعلامية حذر اقتراب فقير من متاجر الكافيار.

وإنما أتساءل عن الحد الأدنى من التأهيل القيمى والأخلاقى لمهنة الصحافة نفسها، سواء بالنسبة للإعلاميين أو بالنسبة لوسائل الإعلام نفسها.

هل لدى كل وسيلة إعلام فى مصر كتاب للضوابط المهنية والأخلاقية يحكم عمل صحفييها أو معديها أو مذيعيها، كما نرى فى مؤسسات الإعلام المحترمة فى كل مكان فى العالم؟ بل هل لدينا فى مصر قانون يضمن الحفاظ على قيم هذه المهن، باعتبارها من المهن التى تمس أمن وسلامة هذا المجتمع، وتشارك فى صنع ضميره ووجدانه وتشكيل مستقبله؟

هل تعلن كل وسيلة إعلام فى مصر عن سياسة تحريرية واضحة يلتزم بها كل العاملين بها فعلا، ولا تتحول إلى كتيبات تطبعها هذه الصحف وتوزعها فى أروقتها حفاظا على الوجاهة الأدبية، وتشبها بالغرب الكافر الذى يوزع هذه الكتيبات مجانا على الصحفيين؟

هل تستثمر وسائل الإعلام فى مصر شطرا من أرباحها فى الإنفاق على تدريب صحفييها على قيادة الرأى فى المجتمع ليتعلموا الحد الأدنى من المسؤولية الأخلاقية والقانونية تجاه الكتابة والنشر والبث الإذاعى والتلفزيونى، أم أنها تخطف المتسكعين من الشوارع وتوظفهم فى مهنة الكلمة دون سؤال عن مؤهل فنى أو أخلاقى؟

هل يعرف الإعلاميون فى مصر أن مبدأ حرية الإعلام نفسه يتضمن بالضرورة التزام هذا الإعلام بكل ما سبق وأكثر، وأنه ليس هتافا مجردا وطنطنة خطابية فارغة من الواجب والمسؤولية تجاه المهنة وتجاه متلقى الخدمة الإعلامية؟

هل يعرف كل من يحمل لقب «إعلامى» أنه لا يكتسب هذا اللقب إلا إذا كان الناتج النهائى عن نشاطه خليطا من الإعلام والتعليم لا خليطا من الضلال والتضليل والجهل والتجهيل؟ هل يعرف أنه لا يكتسب هذا اللقب لمجرد أنه يعمل فى صحيفة أو إذاعة أو قناة كما لا يكتسب الأرنب لقب «سمكة» لمجرد أنه سقط فى البحر؟

إذا كانت إجابة أى سؤال مما سبق بـ«لا»، وكلها إجابتها بالنفى طبعا، فتلك مصيبة، وإذا لم تكن لدينا فكرة عن حل هذه المشكلة فالمصيبة أعظم.

والسؤال الأكثر خطورة: هل يليق بنا أن نحترس فلا نأتمن لصا فاشلا فى الحساب على مالنا، بينما وبكل بساطة وأريحية، نأتمن كل ذى عاهة نفسية وعلة وطنية وكل ذى حاجة وكل ذى مصلحة ومنفعة شخصية على عقولنا؟!

وهل يصح أن نخاف على سياراتنا من سائق لا يحمل رخصة قيادة، لنأتمن أن يقودنا جاهل أو تائه أو مضلّل- بكسر اللام الأولى وفتحها- إلى سكة الخروج من غيبوبتنا الحضارية؟!