منذ منتصف السبعينيات فى القرن الماضى، وحتى ديسمبر ٢٠١٢، كان لمكتب إرشاد جماعة الإخوان موقفه الحاسم من قضية العنف ومن يمارسه من جماعة إسلامية، وسلفية جهادية، وقاعدة.. إلخ، وكان رأيه أن استخدام القوة والسلاح للوصول إلى السلطة مرفوض رفضاً تاماً، وأن الوسائل الديمقراطية هى السبيل للتغيير.. وقد أصدر فى ذلك مئات البيانات والتصريحات، فضلاً عن المواقف التى أكد فيها رفضه وإدانته للعنف- أيا كان شكله وحجمه ومصدره- وكان لذلك أثره فى حماية الكثير من الشباب من الانزلاق إلى هاوية العنف.. والثابت بيقين أنه لا علاقة للإخوان البتة بحادثة الفنية العسكرية التى قامت بها مجموعة صالح سرية، أو مقتل الشيخ الذهبى على يد جماعة «التكفير والهجرة» فى منصف السبعينيات، ولا باغتيال الرئيس الراحل أنور السادات على يد الجماعة الإسلامية والجهاد، أو مقتل حوالى ١٢٠ ضابطاً وجندياً من أمن أسيوط على يد الجماعة الإسلامية فى أوائل الثمانينيات.. لذا، ليس من الموضوعية ولا من الإنصاف أن يحاول البعض إسناد هذه الحوادث للإخوان، سواء كان خلطاً للأوراق أو تصفية للحسابات.. لقد كان مكتب الإرشاد حريصاً على استقلالية المنهج وعدم تماهيه مع أى مناهج أخرى، وأن قضية الإصلاح لا يمكن أن تتم إلا بالأسلوب السلمى.. وبالعودة إلى تاريخ تلك الفترة ستجد أن مكتب الإرشاد آنذاك قد انقلب على فكر «البنا»- قولا وفعلا- فيما يتعلق بـ4 قضايا رئيسية هى: الشورى، التعددية السياسية، المرأة، واستخدام القوة فى الإصلاح والتغيير.. واتساقاً مع هذا التغيير واقتناعاً به، كنت حريصاً عند تناولى لمعنى القوة الوارد فى رسائل «البنا» أن أحددها بقوة العقيدة والإيمان، وقوة الوحدة والارتباط، وقوة الحركة والانطلاق (بدلا من قوة الساعد والسلاح التى ذكرها «البنا»).. وبعد مضى عام تقريبا من مجىء «عاكف» فى يناير ٢٠٠٤، وأثناء حديثنا العادى حول هذه القضية، قلت رأيى الذى ذكرته أنفا، فما كان من أحد أعضاء المكتب (محمود عزت تحديداً) إلا أن اعترض على ذلك وقال: لا نريد تغييراً لكلام البنا(!)، وهو الذى كان يغض الطرف عن اجتهادات المكتب فى القضايا السابق ذكرها(!).. تعجبت لحظتها وقلت ليس هذا بقرآن، وإذا كان صحابة النبى (ص) يراجعونه فى بعض المواقف، فلنا أن نراجع فكر «البنا»، لأنه فى النهاية منتج بشرى، لا هو منزل ولا هو مقدس.. وللأسف، كان بعض الإخوان يضفى على «البنا» هالة من القداسة، إذ كان يكفى فى أى مناقشة أن يقال لقد قال «البنا» فيها كذا وكذا، فينحسم الأمر(!)
لقد ظلت فكرة قوة الساعد والسلاح مسيطرة على مجموعة مكتب الإرشاد، التى تولت قيادة الجماعة منذ أوائل عام ٢٠١٠.. ومن هنا كانت بداية الكارثة.. فى أثناء خوض انتخابات المجلس النيابى أواخر عام ٢٠١١، كان هناك تمايز واضح بين فصائل التيار الإسلامى المختلفة.. وفى أثناء الجولة الأولى لانتخابات الرئاسة فى مايو/ يونيو ٢٠١٢، كان هناك حرص من «المرشحين الإسلاميين» على أن يترددوا ويتوددوا إلى الجماعة الإسلامية والسلفيين- على اختلاف مناهجهم - لاستجلاب أصواتهم، ولم يكن الدكتور أبوالفتوح ولا الدكتور العوا يطمعان فى أن ينال أى منهما صوتا واحدا من الإخوان.. وكان أن انقسمت الجماعة الإسلامية والسلفيون وتابعوهم إلى ٣ أقسام، قسم مع الدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح، وقسم ثان مع الدكتور سليم العوا، وقسم ثالث مع الدكتور محمد مرسى.
وفى الجولة الثانية للانتخابات، تغير الموقف تماما، إذ انضم التيار الإسلامى كله بمن فيه من جماعة إسلامية، وسلفيين، وجهاديين، وحازمين، وقاعدة.. إلخ، إلى الدكتور محمد مرسى.. والنتيجة أن اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد هناك هذا التمايز الذى حرص عليه الإخوان طيلة ٤٠ عاماً.. ومن أجل الأصوات، ضاعت الفواصل وتلاشت الحدود بين الجماعات والتنظيمات والتشكيلات.. فما هى التفاهمات والصفقات التى تمت بين الإخوان وبين كل فصيل من هذه الفصائل؟ ولن أتحدث عن تورط الجماعة فى أعمال العنف، فهذه محلها تحقيقات النيابة والقضاء حاليا، لكنى ألفت نظر القارئ الكريم إلى بعض المشاهد التى لا تدع مجالاً لشك فى أن الجماعة قد تماهت فعلاً مع فصائل العنف والإرهاب.. ونظرة على مشاهد: يوم حصار المحكمة الدستورية العليا، ويوم دار القضاء العالى قبل ساعات من إصدار الإعلان الدستورى الكارثى، ويوم الاعتداء على المعتصمين أمام قصر الاتحادية فى ٥ ديسمبر، أقول كانت هذه المشاهد تضم الجميع فى كتلة واحدة.. ونظرة ثانية على المشهد الذى جمع الدكتور مرسى مع قيادات القوات المسلحة بخصوص الجنود المصريين المختطفين وقوله الغريب إنه يريد الحفاظ على المخطوفين والخاطفين معا(!) هو الآخر له دلالته التى لا تخفى على لبيب.. ونظرة ثالثة على مشهد احتفالات الدكتور مرسى بانتصار أكتوبر فى استاد القاهرة، وكيف أحضر الرجل قتلة الراحل السادات وأجلسهم فى المقصورة، وتجاهل قيادات القوات المسلحة، تؤكد المعنى الذى ذهبنا إليه.. ونظرة رابعة أو خامسة على احتفال الدكتور مرسى فى الصالة المغطاة فيما أطلق عليه مؤتمر النصرة تحت لافتة «لبيك يا سوريا»، وكيف لاحظنا أن جميع الفصائل كانت حاضرة.. ونظرة أخيرة على اعتصام رابعة تدل بشكل قاطع على امتزاج واختلاط الجميع من كافة الفصائل، من تكفيريين وإرهابيين وسلفيين وجماعة إسلامية وإخوان.. ولعلنا نتذكر جيداً أحدهم وهو يصرخ قائلا: «انت بتحرق مصر يا سيسى.. سوف ترى تفجيرات فى كل مكان وعربات مفخخة بالريموت كنترول.. إلخ»، كما شاهدنا وسمعنا «البلتاجى» وهو يقول: «فى اللحظة التى يعيد فيها عبدالفتاح السيسى الرئيس مرسى إلى قصر الاتحادية، وتعود إليه كل صلاحياته، سيتوقف كل شىء فى سيناء»..هذا إضافة إلى الخطاب التكفيرى والمحرض على العنف من فوق المنصة، فضلا عن التجمعات التى تم تسييرها إلى دار الحرس الجمهورى، والمنصة، ومسجد الفتح برمسيس، وما واكبها من استخدام العنف والسلاح، وإراقة الكثير من الدماء، ناهينا عما حدث بعد فض الاعتصام.
هذه شهادتى أدلى بها للحقيقة والتاريخ.. وإذا كان «عاكف» يعتبر من وجهة نظرى كارثة حلت بالجماعة، فقد كان «محمود عزت» و«خيرت الشاطر» سبب نكبتها وقيادتها إلى حتفها، وهذا بالطبع لا يعفى من المسؤولية جميع أفراد الجماعة الذين تواطأوا مع هؤلاء، سواء بالمشاركة أو بالصمت.