كادت «سلامو عليكم»، رده على اتصالي الهاتفي، وحديثه بعامية مصرية تخلو من أي كلمة أجنبية أو لكنة غريبة، أن يكونا سببًا للشك في أن محدثيّ ينتمي للأرمن، من رأيناهم لأعوام طوال «خواجات البلد» سكّان المجتمعات التي «لا تتسع إلا لهم»، بافتراض ثبت خطأه مع رافي عادل صايغ، ابن الجيل الرابع لعائلة أرمينية لاذت بمصر من مذابح «العثمانيين»، واستوطنت الإسكندرية، حيث ولد رافي وأبويه مصريين.
من أمام بطريركية الأرمن الكاثوليك، المنتمي إليها، اصطحبنا رافي بعد القداس الصباحي الأسبوعي، في رحلة بالترام إلى الإبراهيمية، عنوان بيت زوجية لم يؤسسه إلا قبل عام تقريبًا، وهو في الأربعين من عمره، لا لسبب إلا لأنه قضى أعوام شبابه باحثًا عن عروس أرمينية، سيرًا على درب عائلته وأبناء طائفته «عندنا كتير بيتأخروا في الجواز، منهم واحد اتجوز وهو عنده 60 سنة لأنه كان عايز أرمينية، وفي الآخر مالقاش واتجوز قبطية مصرية، وأختي لسة لغاية دلوقتي ماتجوزتش لنفس السبب».
لا محاذير أو حرج على أبناء الأرمن تمنع زواجهم من غير منتمين لطائفتهم، لكنه الحرص على حراسة ونقل الهوية بين الأجيال «أنا لقيت بابا وماما أرمن، وعايز استمر في النادي والكنيسة الأرمينيين، ما ممكن العروسة الجديدة دي كانت تخطفني وتقولي تعالى كنيستي أو تاخد العيال وتروح تعمدهم فيها، فأنا عايز أفضل واستمر في كنيستي، ماروحش كنيسة غريبة وابقى غريب فيها، عايز أسامي ولادي تكون أرمينية ويدخلوا النادي بتاعنا، ويلعبوا (باسكت) أو يغنوا في الكورال ويرقصوا باليه، علشان كده فضلت الأرمينية، بس كان لازم الحق اتجوز قبل الستين».
أفسدت القسمة والنصيب مساعي رافي، التي كان منها محاولة للاتصال بفتاة من فقراء الأرمن النازحين لمصر بعد زلزال ضرب بلدها، وهي المحاولة التي كان جادًا فيها لدرجة تجنيده لجده كي يكتب له خطابات بالأرمينية لها، كما يتذكر وسط ابتساماته وزوجته «مالقيتش عروسة أرمينية، بس لقيت حاجة أحسن الحمدلله، مارونية»، وهذه تعرف عليها منذ 3 أعوام في كورال كنسي، فلم يجد منها إلا القبول به زوجًا «قلتلها أنا أرمني، وماكنش فيه مشاكل خالص».
تمسّك رافي السابق بالعروس الأرمينية، كان أحد أسباب تفكيره في الهجرة إلى بلادهن، وهو ما عدل عنه بعد «فتح البيت»، حيث أصبح لا يمكنه الابتعاد عن بلده «مابحبش أسيب مصر، لأني بحبها وليا ارتباطات كتيرة وأصدقاء وجيران وكنيسة»، وعلى الرغم من ذلك تبقى علاقته بأرمينيا موصولة بقراءة عنها واطلاع على حاضرها وماضيها سواء عبر الإنترنت أو مجلة الأرمن الصادرة بالعربية «أريك»، التي يحتفظ بكل أعدادها تقريبًا، أو بزيارة البلد نفسه كما فعل منذ عامين.
رأت عينا رافي، في تلك الزيارة، أرمينيا «متقدمة جدًا»، ويقتنع عقله بأن أجداده «أسطوات شاطرين» صنعوا في مصر، من أول أجيالهم، ما يُحسَب لهم كمدعاة للفخر «أنا فرحان وفخور جدًا إني أرمني، إحنا مشهورين بالصناعات، عندنا مثلاً جواهرجية كتير زي (بابازيان)، وأصحاب مطابع وورش أحذية زي (جريجوريان)، وكمان كانت عيلة (جورجوريان) مشهورة بالبسطرمة»، وبجانب مهارة اليد، يفخر رافي بما للأرمن من حظ في الفن «الحمدلله الكورال الأرمني من أقوى الكورالات الموجودة في العالم».
لا يتعارض هذا الفخر بالجذر الأرميني مع وجود علاقات محبة وود من رافي لبلده وأهلها، والتي ظهر بعضها في ممازحته لأغلب من يمر بهم في الشارع بطريقة تجعلك تصفه بـ«ابن البلد»، «ماننساش إن مصر هي اللي استقبلت أجدادي، مصر بتحبنا واحنا حبيناها، وأصحابي كلهم مصريين، والحمدلله العلاقة كويسة مع بعض في النوادي والمدرسة والكشافة».
لم تبدأ صداقة «حفيد الأرمن» بـ«أحفاد المصريين»، من مكتبته في سموحة أو بمشاركته في ثورة 25 يناير ولا حتى من جامعة الإسكندرية حيث درس التجارة، فالاختلاط قديم منذ كان طالبًا «مادخلتش المدرسة الأرمينية، لأن اللغة صعبة، فأهلي استسهلوا ودخلوني مدرسة فرنساوي»، وفي ما قاله رافي تفسيرًا لنطقه الأرمينية ككلمات متراصة بلا قواعد نحوية تكون جملة سليمة، ولجوئه إلى مترجم للأفلام الأرمينية التي يشاهدها.
لا يجد رافي في عدم إتقانه للغة شفيعًا يعفيه من عدم الحديث بها «ماينفعش الأرمن في النوادي والكنايس يتكلموا غير أرميني، لو حد سمعني بتكلم عربي يقولي (إيه ده؟ اتكلم أرميني)، علشان نحافظ على اللغة»، وهذا الهدف هو ما يجعله مستمرًا في محاولة الكلام، مستعينًا في ذلك بمدد من عبارات حفظها طفلاً من أحاديث الأم والجدة.
استمد رافي من جدته، اللغة وذكريات احتضنتها الإسكندرية «أنا بزور جدتي لحد النهاردة، لأني اتعودت أزورها مع ماما ونخرج 3 مرات في الأسبوع، كنا بنروح البحر في الصيف، وكانت العيلة تتجمع يوم راس السنة في بيتها ونعمل وجبة كبيرة ونبات عندها، وافتكر إنها كانت بتطبخ للأرمن اللي في (هومنتمن) أكلات»، وبجانب أكل الجدة يتذكر صنع يدي والدته «وماما كمان كانت بتعملنا أكلة أرمينية اسمها (زيفازيغ)، دي عبارة عن كوسا مقلية».
لم يُحرم الأصدقاء والجيران الأرمن من نصيب في ذكريات وحاضر رافي، بدءً من تهاني وإهداءات أعياد الميلاد والمناسبات التي تبادلوها في صباهم عبر إذاعة «البرنامج الأوروبي» في الساعة التي كانت مخصصة للأغنيات الأرمينية التي نشأ على سماعها، وصولاً للقاءات القداس والإجازات والأعياد والحفلات، منها التنكرية، ومشاركاته والصبية والفتيات في الكورال، ولعبهم في النوادي، وتلك الأخيرة يذكر رافي أنه عضو في أحدها «هومنتمن»، حيث تربى كأي سكندري على حب ولعب كرة السلة «عندنا بطولات (باسكت)، وبنمثل مصر في دورة في قبرص وأرمينيا».
لا ترتبط ذكريات رافي كلها بأحداث سعيدة، فهناك ما اعتاد إحيائه منذ كان طفلاً في كشافة الكنيسة «كانوا بيدوني علامة صغيرة كده أحطها على القميص مكتوب عليها رقم، وأقعد ساعة في القداس وامشي، وماكنتش أعرف حاجة لغاية ما كبرت وعرفت إن ده عن الإبادة».
لم تكدر الخصومة التاريخية مع تركيا صفو علاقة رافي بأبناء تلك الدولة «ليا أصحاب وزباين أتراك كتير جدًا، أصل المشاكل مابين أجدادنا، فعلاقتنا مفيهاش كره، الأرمني مايعرفش يكره»، كما لم تؤثر تلك الصداقات على اهتمام رافي باسترداد حق أجداده، لدرجة اختياره في لجنة تنظم فعاليات الذكرى المئوية «إحنا مستنيين إن تركيا تعترف، وان شاء الله هتعترف، لازم الحق هيظهر».
لا ينتظر رافي وأهله من الأرمن الاعتراف التركي فحسب، بل الاعتراف المصري بالمذبحة «مصر كانت هتوقّع وتعترف بمذبحة الأرمن أيام الرئيس عدلي منصور، بس ماحصلش نصيب، فنأمل إن حاجة زي دي تتم، لأننا دعينا الرئيس السيسي وهو رجل المواقف».