فى آخر مشهد من فيلم «المصير» للتنويرى الراحل المخرج الكبير يوسف شاهين ستجد محرقة عظيمة للكتب بأمر من الخليفة لظنه أن الكتب بها ما يفسد العقول، وحينما يجد ابن رشد بجلالة علمه ورشده كتابا نجا من المحرقة يعيده إليها ثانية بحجة أن الأفكار لها أجنحة فلن يضرها الحرق، هكذا كانت رؤية المخرج (العالمي) حول الكتب والأفكار والأجنحة وقدمها بقدر ما يعتقد فى إطار فيلمه لتلف الأيام بالبلد الطيب ونرى مدرسة تقرر مديرتها أن تحرق أيضا الكتب ولكن هنا الحرق بدافع تنويرى أيضا كما تعتقد صاحبة القرار فإن كان الخليفة فى فيلم المصير حرق الكتب خشية التنوير فإن السيدة فى العام الخامس عشر بعد الألفين من الميلاد والتى تحرق الكتب تأمر بحرق سبعة وخمسين كتابا خشية الأفكار المظلمة وفق ما تعتقد فى تلك الكتب وما تحويه من ضلالات وتشويهات فكرية مؤذية تضر بعقول الناس، ليبقى فعل الحرق واحدا، الحرق فى المشهد السينمائى معبرا عن وجهة نظر فيلم شاهين والحرق فى المدرسة، وكأن السيدة نسيت مقولة شاهين أن الأفكار لها أجنحة أو أن شاهين نسى أن حرق كتب ابن رشد كان كافيا لإصابته بجلطة بدلا من أن يلقى بكتابه إلى النار كعروس تلقى ببوكيه وردها إلى صاحبة الحظ من المعازيم فى أفراحنا الحديثة، وبين المشهدين السينمائى والواقعى يمر الزمن حوالى عشرين عاما أو يقل، عشرون عاما تمر على البلاد والناس فى الشاشات تتحاور وتتناقش على ما يحيط بأمر حرق الكتب ويخشى الجميع الدخول فى النار نفسها، إن كان حرق إنسان شيئا يثير الشفقة والرعب فإن حرق الكتب هو حرق للإنسان بشكل مكثف. خلاصة الإنسان فى صورة أوراق تحرق ويدخل بنا الأمر إلى نفق جديد وهو: هل يجوز مقاومة الأفكار المظلمة بحرقها؟؟؟!
لتظهر أصوات متطرفة متشددة تحمل لواء الحرية فى تناقض مرعب بين ما تحمل وما تقول وتؤكد ضرورة حرق الكتب المظلمة وهى ذات الأصوات ونفس الشخصيات التى نادت قبل شهور قليلة بالرد على الرسوم المسيئة لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالعقل وأن نواجه الرسم برسم والكتاب بكتاب والفيلم بفيلم، وسرعان ما يأكل الزهايمر عقولهم ويتحولون إلى مناصرين للحرق ومشعلين للحرائق وكأن الفعل نفسه فعل حرق كتاب أيا كان محتواه ليس فعلا همجيا وحشيا فاشيا، ما هو الفارق بين من يريد حرق كتاب لما يحوى من أفكار تناقض عقله وبين الآخر الذى يريد أن يحرق كتبا تنويرية تناقض أيضا هواه وعقله لتتحول البلاد إلى همج يعيشون فى كهوف يفصل بينهما محرقتان عظيمتان أمام كل فريق محرقته ويمدها كل يوم بما يعتقد أنها كتب تعادى ما يعتقد، أى ردة تلك التى تصيب البلاد وتجعلها أضحوكة بين الأمم، المعامل فى دول الدنيا الآن تسعى لإيجاد حلول للطاقة وأفكار بديلة وقدرة مستحدثة لفك شفرات الإنسان وجيناته وقهر الأمراض التى قهرته والترفيه عن إنسانها بكل سبل العلم والتقدم وبلادنا تناضل وتتسابق فى حرق الكتب ويتسابق التنويرى مع الجاهل على الفوز بعصا الحمق. لتكن محرقة إذن لتخرج كل أسرة ما ترفضه من أفلام وكتب ومسرحيات ولوحات فنية أمام باب شقتها وتتولى حرقها حتى يستطيع أن يجد العالم على شاشاته أخبارا وعروضا مسلية قادمة له من إحدى دول العالم الثالث، وربما يكون ذلك فنا مصريا جديدا مستحدثا ربما يكون (فن الحرق) هو ذلك الفن التاسع أو العاشر أو الفن الحادى عشر الذى سيبهر العالم ويأتى إلينا الوافدون من كل حدب وصوب بغرض التعلم، لقد انتصرت داعش كالعادة وصار لها بين مدعى الحرية قيادات بارزون وصار لواء الحرية يحمله الدموى والمتشدد وضيق العقل وصار فعل الحرق نفسه محببا للنفوس، وصرنا جميعا نملك حكمة (ابن رشد) كما تصوره شاهين، ابن رشد فيلم المصير، صرنا مثله نمسك الكتب ونعيدها ثانية للمحرقة بابتسامة واثقة حكيمة لأننا نعرف جميعا أن الأفكار لها أجنحة والأجنحة قادرة أن تطير من رأس أبوبكر البغدادى إلى رأس ابن رشد.