«الماشاف».. 57 عاماً من النفوذ الإسرائيلى فى أفريقيا

كتب: محمد البحيري الثلاثاء 21-04-2015 11:55

كان من الطبيعى أن تعانى إسرائيل من العزلة الإقليمية، على الأقل من جانب جيرانها العرب، من أجل إقامة كيان لا علاقة له بالمنطقة، لذلك لم تجد إسرائيل وسيلة لمواجهة هذه العزلة سوى الخروج إلى آفاق أرحب بعيدا عن محيطها الإقليمى، فكان توجهها إلى قارة أفريقيا، بعد أن عانت من فشل كبير في آسيا.

وبحسب الدبلوماسى الإسرائيلى آريه عوديد، في كتابه «إسرائيل- أفريقيا»، الذي صدر مؤخرا في ترجمة عربية، أنجزها عمرو زكريا، عملت إسرائیل على تقویة وجودا في أفریقیا من خلال مسارین أساسیین: المسار السیاسى- الإعلامى، ومسار التعاون الدولى من خلال الوكالة الإسرائيلية للتعاون الدولى في مجال التنمية، والتى تعرف اختصارا باسم «الماشاف».

كان دافید اكوین الذي وصل بورما كأول ممثل لإسرائیل عام 1953، وأول من بادر، وقاد، ونفذ برنامج التعاون الفنى مع الدول النامیة. أرسل هاكوهين الخبراء الإسرائیلیين إلى بورما أثناء فترة عمله، وبدأ الدارسون البورمیون في التوجه إلى إسرائیل للتأل في مختلف المجالات. وكان نشاط دافید اكوین نموذجًا لنشاط المساعدات الإسرائیلیة بعد ذلك.

وجاء مؤتمر باندونج في إندونيسيا عام 1955، بحضور 29 دولة أفريقية وآسيوية وكان نواة لما يسمى بدول عدم الانحياز، ليحفز إسرائیل على زیادة وجودا في الدول النامیة، من أجل إ حباط جهود الدول العربیة لعزل إسرائیل في العالم. وكانت أفر یقیا التي شهدت في الستینیات عملیة من التخلص من الاستعمار- هدفًا رئیسیًا.

أكد رئیس الحكومة الإسرائيلى آنذاك دافید بن جوریون الذي أعرب عن خیبة أمله من مؤتمر باندونج وقراراته- ضرورة تقرب إسرائیل من الشعوب الأفریقیة، ومشاركتها تجربتها، ومساعدتها في تنمیة بلادها وبناء شعوبها.

كانت غانا في عام 1957 أول دولة حصلت على استقلالها، وبدأ على الفور، إیهود أبریئیل، أول سفیر إسرائیلى فیها، العمل على خلق تعاون فنى واقتصادى بینها وبین إسرائیل. كما توجهت دول أفریقیة أخرى، هي تنزانیا، وأوغندا، وكینیا، ونیجیریا، وساحل العاج، بطلبات إلى إسرائیل لإرسال الخبراء إلیها، إيفاد مواطنيها للدراسة في إسرائیل، حتى قبل حصولها على استقلالها من الاستعمار.

في بدایة 1958 طرح في مكتب رئیس الوزراء الإسرائيلى ووزارة الخارجیة مقترحات بإنشاء هیئة تركِّز أعمال المساعدات. واقترح إلیاشیف بن حورین، مدیر قسم آسیا وأفریقیا، إنشاء صندوق للمساعدات الفنیة لدول آسیا وأفریقیا بمبلغ 70 ألف جنیه للعام المالى 1959/1958. وأوضح بن حورين أن «وجودنا في القارة- من خلال الخبراء- سیعود على إسرائیل بفوائد تجاریة واقتصادیة، علاوة على المكانة السیاسیة في جزء حساس ومهم في العالم.. إن الغرض من الصندوق هو تغطیة الفجوة بین ما تستطیعه الحكومات المحلیة وترید تقدیمه، وبین ما يحتاجه الخبراء الإسرائیلیون في عملهم». واقترح أن تدیر الصندوق لجنة یرأسها ممثل وزارة الخارجیة، ویشارك فیها ممثلو وزارات التجارة والصناعة، والزراعة وأيضاً وزارة الدفاع.

ووافقت وزارة الدفاع على الفور، ولكن ظهرت المنافسة بین وزارة الخارجیة وديوان رئیس الحكومة حول إدارة أعمال المساعدات، ما أربك الكيان الوليد. فعرض تيدى قولق، مدیر عام مكتب رئیس الحكومة، مذكرة طویلة ومفصلة مقترحا بإنشاء «معهد لدراسة مشكلات الدول الجدیدة، یقوم بتجمیع كل الأنشطة التي تقوم بها الهیئات المختلفة، من أجل تقدیم العون للدول الجدیدة لتنمیتها بشكل یسمح لنا (لإسرئيل) بالاستفادة القصوى سیاسیًا واقتصادیًا».

وخاف قولق أن تتبنه الدول الأفريقية إلى مطامع إسرائيل فيها، فاقترح تركیز أعمال المساعدات في كلیة الاقتصاد والعلوم الاجتماعیة بالجامعة العبریة، التي ستتعاون مع معهد فایتسمان والتخنیون. وافترض قولق أنه من الممكن جمع التبرعات من مصادر خارجیة من أجل نفقات المعهد.

بعد حوالى شهر من كتابة مذكرة قولق، عقدت جلسة مشتركة- في 25 مارس 1958 بین ممثلین من مكتب رئیس الحكومة، ووزارتى الخارجیة والدفاع من أجل تلخیص المقترحات في موضوع المساعدات. وتم الاتفاق على إنشاء هیئة تُنسِق بین كل أنواع التعاون الفنى الإسرائیلى، یدیرها مجلس إدارة برئاسة مدیر عام مكتب رئیس الحكومة، واقترح فیما بعد مشروع میزانیة مفصلة لقبول أربعین دارسًا في السنة، وإرسال ثمانیة خبراء إلى الدول النامیة على حساب الحكومة الإسرائیلیة، بتكلفة توازى نحو 500 ألف جنیه تقریبًا.

في هذه الأثناء، سافرت وزیرة الخارجیة الإسرائيلية في عام 1958، في أولى رحلاتها إلى أفریقیا، للمشاركة في الاحتفالات بمناسبة مرور أول عام على استقلال غانا. وكان من الطبيعى أن تطلب دولة ناشئة أي مساعدات من أي جانب.

كانت مائير تتفق مع إلیاشیف بن حورین، مدیر قسم آسیا وأفریقیا، بأن وزارة الخار جیة هي التي یجب أن تقوم بهذا النشاط. ولقد دُهش كل من قولق واللواء مردخاى لیمون، الذي اهتم بالموضوع من قبل وزارة الدفاع، بما سمعه أن وزیرة الخارجیة تراجعت عن الاتفاق الذي تم التوصل إلیه في النقاشات السابقة، وطلبا عرض الأمر على رئیس الحكومة لیحسمه.

حكَمَ بن جوریون لصالح قرار جولدا مائير، وقرر قولق أنه نظرًا لهذا التغییر «فإن مكتب رئیس الحكومة لن یقترب أكثر من هذا الموضوع». وأوقف مكتب المساعدات الفنیة، الذي كان تابعًا لمكتب رئیس الحكومة نشاطه.

كانت مائير تحرص على عدم التعاون في تلك المرحلة مع أوروبا والولايات المتحدة، حتى لا ينتبه الأفارقة إلى أن إسرائيل تنتمى إلى الدول الاستعمارية، فلا تأمن جانبها، خاصة أنها خرجت بالكاد من رحم الاحتلال الغربى.

كان قسم آسیا وأفریقیا، برئاسة إلیاشیف بن حورین هو القائم على المساعدات في البدایة. وفى 1958 أنشأت وزیرة الخارجیة «قسم التعاون الفنى» في إطار قسم المؤسسات الدولیة. ولقد رأس القسم حنان عینور، الذي حدد تكوینه ونشاطه.

وفى 1960، أصبح القسم قسمًا مستقلًا تحت اسم «قسم المساعدات والتعاون الدولى»، وكان يعرف اختصارا باسم «ماساف». وفى 1961، حذفت كلمة «المساعدات»، التي كان اعتبرها الأفارقة نوعاً من التعالى الإسرائيلى، وسمیت الوحدة «قسم التعاون الدولى» (ماشاف). وكان أهرون ريمز أول مدیر له.

وفى نوفمبر 1958 افتُتحت في إسرائیل أول ورشة عمل دولیة حول موضوع التعاون والمتعاونين، شارك فیها العشرات من قادة حركات العمل الأفریقیة. ولقد أرسل بن جوریون إلى الحاضرین برقیة تهنئة.

ولقد ظهر اهتمامه بأفریقیا عندما كانت الكونغو على وشك الاستقلال عن بلجیكا في 15 أغسطس 1960؛ حیث أرسل بن جوریون برقیة إلى إیهود أبریئیل، سفیر إسرائیل في غانا ولیبیریا، بالإسراع والتوجه إلى الكونغو «نظرًا لأهمیة الكونغو المستقلة وإمكاناتها».ولا تبدو هناك أهمية للكونغو آنذاك سوى أنها دولة من دول حوض النيل.

وتكرر الأمر مع أوغندا التي هي من حوض النيل أيضا، عندما حصلت على استقلالها، أرسل بن جوریون، الوزیر یجئال ألون، كممثل لها في احتفالات الاستقلال، ببرقیة تهنئة وهدیة 150 منـحة تعلیمیة للدراسة في إسرائیل.

وخلال فترة قطع العلاقات بين إسرائيل والدول الأفريقية، كان الماشاف هو الوسيلة الوحيدة لاستمرار العلاقات الإسرائيلية مع هذه الدول، وهو ما حدث على سبيل المثال في كينيا، وكذلك في رواندا التي استقلت عن بلجیكا في الأول من یوليو 1962. ولعلها من باب الصدفة أن الدولتين من دول حوض النيل أيضا. المهم أن إسرائيل سارعت بإرسال مساعدات عاجلة إلى رواندا، وكانت هذه المساعدات عبارة عن طبيب عيون إسرائيلى واحد، كان هو طبيب العيون الوحيد في رواندا التي كانت تشكو من تفاقم أمراض العيون.

وكثفت وكالة الماشاف أنشطتها في أفريقيا، من خلال العمل بمختلف المجالات، ولكنها ركزت على مجالات الزراعة والرى والصحة. وكانت مؤتمرات رحوفوت الدولیة لتنمیة الدول النامیة مثالا بارزا على نجاح إسرائيل في اختراق أفريقيا من هذه البوابة.

ففى المؤتمر الأول الذي عقد في 1960 بمعهد فایتسمان للعلوم، بمبادرة من وزیر الخارجیة أبا إیبان، شارك حوالى مائة شخص، نصفهم من أفریقیا وآسیا ونصفهم من علماء إسرائيل وأوروبا والولایات المتحدة.

وفى الفترة بین 1968- 1960 تم التوقیع على اتفاقیات تعاون فنى لإسرائيل مع 21 دولة، وُقِّع نصفُها في عام 1962، بالإضافة إلى اتفاقیات الصداقة والاتفاقیات التجاریة والاقتصادیة.

وتعلن وزارة الخارجية الإسرائيلية على موقعها الرسمى أن الأولوية في خدمات الماشاف تكون لإثيوبيا وغانا وكينيا ورواندا وأوغندا وجنوب السودان والسنغال. ويمكن ببساطة الانتباه إلى أن كل هذه الدول تنتمى لحوض النيل، باستثناء السنغال وغانا.

كما لفتت إلى أن ثمة دول تحظى باهتمام إسرائيلى خاص، هي بوركينافاسو، ساحل العاج، الكاميرون، توجو.

وعند النظر إلى نشاط الماشاف في دولة مثل كينيا، خلال العام الأخير، سوف نجد عناوين مثل إطلاق إسرائيل مشروع التعليم من أجل التنمية المستدامة في مدارس كينيا، بموجب اتفاقية تم توقيعها بين الماشاف ووزارة التعليم الكينية في يناير 2013، وبالتعاون مع ما يسمى معهد التعليم من أجل التنمية المستدامة التابع لكلية ديفيد يلين للتعليم الأكاديمى في القدس. ويتوافد عشرات الخبراء الإسرائيليين على كينيا تحت لافتة مشروعات التخطيط الاستراتيجى للمحليات، والتعاون في مجال مكافحة الحشرات وقياس تأثير المبيدات على تلوث الماء والتربة، وورش عمل حول الطاقة المتجددة، ومكافحة الفقر، والزراعة والرى والبحث العلمى والتعليم والصحة، كان أحدثها في فبراير 2015. كما تم توقيع اتفاقية تعاون بين كينيا وإسرائيل وألمانيا لتنفيذ المرحلة الثانية من التعاون لتعزيز وسائل مستدامة لحماية بحيرة فيكتوريا، التي تعد من مصادر نهر النيل، وخلق مصادر رزق بديلة للمجتمعات التي تعيش حول البحيرة. وتم التوقيع في يوليو 2014، فيما تم توقيع اتفاقية المرحلة الأولى في أغسطس 2012.

وفى إثيوبيا تتوالى زيارات رئيس الماشاف السفير جيل حزقيل، والتى كان آخرها في 29 مارس 2015، مع تكثيف الاتفاقيات وأوجه التعاون في مختلف المجالات بين الجانبين.