جمال حزين.. تأملات في شخصية مصر

جمال الجمل الجمعة 17-04-2015 07:05

لا أشبه نجيب محفوظ في شيء، لكنني أشبه جمال حمدان (على الأقل في نصف اسمه).

تلك هي الجملة التي دونتها في أوراقي عصر ذلك اليوم من أبريل عام 1993 بعد أن اتصل بي الغالي إبراهيم أصلان على تليفون منزلي ليخبرني بالنبأ الحزين: «جمال حمدان مات.. احنا بعتنا الخبر، اكتب براحتك النهاردة وهات الموضوع بكره».

عملت لسنوات قرب الشارع الذي يسكن فيه حمدان، ولم تواتيني أبدا فكرة اقتحام عزلته، التقيت نجيب محفوظ مرارا، وكتبت عنه كثيرا كثيرا، لكنني لم ألتق حمدان أبدا، ولم أكتب عن حياته شيئا حتى ذلك اليوم.. فقط كنت أعدت لمجلة «آفاق عربية» العراقية موضوعا نشر (على ما أذكر) في خريف 1986 على 6 صفحات عن رباعيته الموسوعية «شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان» التي نشرت بذرتها الأولى في كتاب واحد خلال عام النكسة، لكنه كعادته أراد التوسع في القضايا والملاحظات، وعكف سنوات على على دراسة أحوال مصر الجغرافية والبشرية، وقدم 4 مجلدات تجاوزت في مضمونها حدود الدراسات الجغرافية التقليدية إلى آفاق الشعر والأدب والدراسات النفسية للشخصية البشرية والقومية، وتأثيرات العلاقة بين المكان والإنسان، بين الماضي والمستقبل.

كنت قد اعتمدت حينذاك في قراءتي المتسرعة للجزئين الثاني والثالث من «شخصية مصر» على جلستين مطولتين مع المفكر الرائع محمود أمين العالم (رحمة الله عليه) بعد أن استمعت لأرائه عن الموسوعة في ندوة بمقر حزب التجمع بوسط القاهرة.

تواصلت علاقتي بجمال حمدان على البعد، فقد كنت مغرما بانعزاله في كهف البحث والتأمل، ولم أحاول تحت أي إغراءات صحفية أن أنتهك هذه العزلة الإبداعية، لأن المسافة التي اصطنعها مع الواقع السياسي والإعلامي والأكاديمي أضافت إلى شخصيته العلمية عندي نوعا من المهابة الأسطورية، كما أضافت إلى جهده العلمي لمسة من الفن والبلاغة والشعر.

عندما وصلت إلى العمارة التي عاش ومات فيها حمدان، وشاهدت بقايا حياة الراهب البسيطة إلى حد الكفاف، شعرت بقدر من الندم لم يغادرني حتى اليوم، فأنا لم أستمع إليه أبدا، لم ألمس شحنات المعاني في ألفاظه، لم أنظر في عينيه لأرى الكلمات الصامتة خلف اللغة الظاهرية والكبرياء الذي يحصن به نفسه.

حاولت تعويض ذلك بمعايشة مؤلفاته وليس مجرد قراءة محتواها، حافظت على علاقتي الأسطورية به، فلم أقرأه كأستاذ أكاديمي متخصص في الجغرافيا، بل قرأته كعاشق رومانسي فجعته محبوبته، وأوضح لكم أنني لا أقصد تلك الفتاة الإنجليزية الغامضة التي حطمت قلبه، بل أقصد كل محبوبة في حياته، فقد خانته الجامعة، والأحلام الرومانسية، وخذله وطن قامر بمستقبله!، كان العاشق حزينا لأن محبوبته (مصر) تحولت من «أول أمة في التاريخ» إلى مجرد «مستعمرة مزمنة» تناوب على مجدها ذئاب كثيرة، سلبوا حضارتها وتركوها هشة محطمة.

وعندما كشف شقيقه (عبدالحميد) عن جانبا من الأوراق الخاصة التي تم العثور عليها بعد وفاة حمدان محترقا، كانت هناك قصاصات تعبر صراحة عن فجيعة العاشق في مستقبل محبوبته مصر، فقد كتب أن «المستقبل أسود» والخيار الواقعي المطروح لم يعد بين السيء والأسوأ، بل بين الأسوأ والأكثر سوءًا.

كان نجيب محفوظ أقرب إلى «ماكينة ألمانية» منضبطة تعمل بانتظام صارم، وكان يغلب على شخصيته أسلوب الموظف الدؤوب المنجز، وهذا أبعد مايكون عن حالي، فيما كان حمدان أقرب إلى الشاعر الحالم المنغمس المتماهي، وهي الحالة التي دفعتني إلى الكهف قرابة 20 عاما بعد موت حمدان وحتى عام 2005، عندما بدأت نسائم جديدة توحي بإمكانية تغيير الواقع الكئيب في مصر.

الفارق أن جمال حمدان انعزل في كهف مغلق وأنجز مؤلفاته برغم كل الظروف الصعبة التي عاشها، أما أنا فانعزلت في كهف باتساع مصر العشوائية، ووسط ناسها الطيبين المتعبين.

كان جمال حمدان يحذر من أن مصر ستتحول إلى «مقبرة بحجم دولة»، وأنا (المصري) كنت من سكان هذه المقبرة، كان يحذر من العشوائية والعبث بأقدار بلد امتص رحيقها غول الاستعمار، وتتربص بها رأسمالية عالمية مسعورة، وأنا (المصري) غرقت في قاع هذا المأساة، حتى صارت مصر كلها حسب تعبيره المؤلم.

مجرد «جثة محنطة».. مومياء سياسية مثل مومياوات الفراعنة، و«لا عزاء للخونة»

والتعبير لحمدان وليس لي، وكان يقصد به مرحلة مابعد كامب ديفيد والتبعية غير المشروطة للراسمالية المتوحشة التي فرضها الأمريكان على مصر ودمروا بها تاريخها الزراعي وطموحها الصناعي.

كان جمال حمدان يحذر من الهيستيريا الدينية، ويصف الأحزاب الدينية بأنها مجرد «عصابات طائفية»، وكتب روشتة مختصرة للتقدم والتحرر تبدأ بـ«شنق آخر فرد في الجماعات الاسلامية المتطرفة بأمعاء آخر فرد إسرائيلي يحتل فلسطين».

كتب حمدان ذلك منذ 40 عاما بعد أن أينعت أشواك كامب ديفيد في أرض العرب، لكن حلم التقدم ابتعد، والتحرر تحول إلى كابوس، وشخصية مصر تحتاج إلى علاج نفسي وبدني طويل، فهل يجد هذا الشعب من يحنو عليه؟!

رحمة الله عليك ياجمال

ما أحوجنا إلى رجال

جمال الجمل

tamahi@hotmail.com