نجيب محفوظ وزعزعة أمن الوطن

مكاوي سعيد الخميس 16-04-2015 21:34

من شرفة الطابق الثانى للمقهى كنا نترقب وصول نجيب محفوظ كل صباح، طبقا لموعده المظبوط بدقة الساعات السويسرية؛ فى الثامنة و45 دقيقة كان يهل من نهاية الكوبرى الحديدى البشع الذى أقاموه بميدان التحرير أيامها بحجة حماية المواطنين من السيارات، وكان يرقبه فى ذات الوقت عم عبد الله جرسون المقهى الشهير، فيصعد بسرعة وبيده الرياشة والفوطة ليطردنا من المكان الخاص بالأستاذ، طبقا للمعاهدة التى عقدناها معه ليلا بأن يتركنا نذاكر فيه حتى الصباح قبيل وصول الأستاذ، وغالبيتنا كانوا من طلبة الأقاليم الملطوشين بالفن والمطرودين من شققهم وغرفهم لتأخير الإيجارات، وكان هذا المقهى الذى يحتفى بالأدباء والفنانين الشباب ملجأ عبقريا، وكل هذا بفضل الأستاذ نجيب الذى يتردد عليه يوميا ليشرب قهوة قبل الذهاب إلى مقر عمله بجريدة الأهرام. ولم يكن مسموحا لنا بقطع أفكاره أو بالتطفل عليه؛ وكان ذلك يدفعنا أحيانا لأن نتلصص عليه خفية من الشارع، وكنت أراه يرشف قهوته فى لذة وهو يتأمل ما وراء زجاج شرفته، وكأنى أراه مفتونا بهذا الميدان العبقرى الذى احتضن كل مهتم بهذا الوطن واحتوى أرواحهم وأجسادهم.. وكأنى أراه خائفا على ميدانه الأثير الذى يؤرق مضاجعهم ويتمنون زواله إلى الأبد.

اسم هذا المقهى «على بابا» أسسه وامتلكه فى عام 1954 تاجر يونانى، وعندما توفى فى أوائل الستينيات من القرن الماضى باعته زوجته إلى مصرى، ظل محتفظا باسم المكان حتى منتصف التسعينيات، ثم تغير المالك أكثر من مرة وتغير كذلك اسم المكان حتى عاد مرة أخرى إلى ما كان عليه فى عام 2012، وظننا أن الأمر استقر لكن محافظة القاهرة كان لها رأى آخر، هدمت الجزء العلوى من المكان الذى كان يشغله نجيب محفوظ أديب نوبل، بحجة أن هذا الجزء مخالف! «وانتى كنتى فين يا محافظة لما تسيبى مكان مخالف 60 سنة!»، وإيه أهمية إنه مخالف ولا عنده تصريح لمكان أصبح من التراث لتردد نجيب محفوظ عليه، وإيه الإصرار على هدمه بهذه الطريقة الهمجية؟ «هو انتى يا محافظة ما بتحبيش القراية.. ولّا ما تعرفيش الأدب؟ ولّا ما عندكيش فكرة عن حاجة اسمها التراث الإنسانى؟»، يجب محاسبة المسؤولين عن هذا العبث بتراث الأمة.. ولو بحبسهم انفراديا مع كتب تبين لهم كيف تعامل الدول المتقدمة نوابغها وتكاد تقيم متحفا لكل مكان توقفوا عنده!

وبالمناسبة نجيب محفوظ كان يعشق دواوين بيرم التونسى، وكان يحب جدًا هذه الأبيات العبقرية التى تصف هجمات رجال البلدية على الباعة الجائلين الغلابةـ ليس كلهم بالطبع- والأبيات تقول (أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين.. ساحبين بتاعة حلاوة جايه من شربين.. شايلة على كتفها عيل عنيه وارمين.. والصاج على مخها يرقص شمال ويمين.. إيه الحكاية يا بيه؟ جال خالفت الجوانين.. اشمعنى مليون حرامى فى البلد سارحين؟ أسأل وزير الشؤون ولّا أكلم مين؟!) والحمد لله ما شافش همتكم وانتوا بتدمروا مكانه، فى نفس الوقت إللى سايبين التعديات على النيل تكبر وتتوغل، ومن رحمة ربنا إنه ما شفكمش برضه وإنتوا ماسكين بياع قصب غلبان وبتقلبوله العربية على الأرض.. على رأى ظرفاء الفيس بوك.. إن زعازيع القصب بتزعزع أمن الوطن!