أذاعت قناة «المنار» يومياً خلال شهر رمضان المعظم مسلسلاً بعنوان: «يوسف الصديق عليه السلام» وهو إنتاج إيرانى متميز بدرجة ملحوظة فى السيناريو والحوار، والتصوير، والإخراج، فهو من الناحية الفنية يبلغ مرتبة سامية، وهو ناطق باللغة العربية.
اعتمد كاتب قصته على بعض معلومات أخذها من الكتاب المقدس (العهد القديم)، ويبدو أنه قد أغفل تماماً المصادر التاريخية التى أوردت بعض الحقائق المتصلة بقصة المسلسل، كما أن المؤلف لم يشعر بسر الحقيقة القرآنية التى ذكرها مع قصة يوسف عليه السلام، التى تثبت أو تنفى بعض القصص المشهورة بين العامة.
والمعروف أن قبائل البدو الرحل «الخابيرو» تمكنت من فرض سيطرتها على أرض كنعان (فلسطين)، وانفصلت بها عن مصر حوالى 1800 ق.م، ثم تابعت موجات البدو هجرتها إلى سيناء وفرضت سيطرتها عليها، ثم واصلت الزحف بها واستوطنت دلتا النيل، واستغلت ضعف السلطة المركزية فأعلنت استقلالها عنها سنة 1760 ق.م،
وبذلك بدأ حكم هذا الدخيل لأرض مصر، وقد أطلق عليهم المصريون اسم «الهكسوس» وتعنى «الملوك الرعاة»، بدأ المحتل حكم مصر بالأسرة الخامسة عشرة، ثم انتقلت السلطة إلى الأسرة الهكسوسية السادسة عشرة وفى عصرها دخل الطفل يوسف إلى مصر وكان ذلك حوالى عام 1692 ق.م.
كانت عاصمة الهكسوس فى مصر هى «حوت وعرت» والتى عرفت فيما بعد باسم «أفاريس» (مكانها الآن مدينة صان الحجر بمحافظة الشرقية)، وكانت آلهتهم هى: «سوتخ» وزوجه «عشتار»، «بعل» وزوجه «عنات»، و«دشبو»، وفى أواخر عصرهم تحول بعضهم إلى عبادة الإله المصرى «ست» الذى كان مكروهاً عند معظم المصريين.
أعظم ملوك الهكسوس قاطبة هو الملك «خيان»، وفى عصره بلغت دولة الهكسوس أقصى اتساع لها فشملت الشام وفلسطين (كنعان) ومصر، ويقال إنه هو الذى أخرج يوسف عليه السلام من السجن واستوزره وكان عمره ثلاثين سنة، وبعد انتهاء سنوات الرخاء وبدء السنوات العجاف وحوالى عام 1660 ق.م،
استقدم يوسف عليه السلام أباه يعقوب (إسرائيل) وأهله جميعاً وأقطعهم أرض «جوش» فى وادى طميلات (الآن قرية صفط الحنة، مركز أبوحماد، محافظة الشرقية)، وقد توفى يعقوب (إسرائيل) عليه السلام حوالى عام 1643 ق.م، بعد أن أقام بمصر سبع عشرة سنة، ثم توفى يوسف عليه السلام حوالى عام 1590 ق.م، بعد أن عاش بمصر أكثر من قرن من الزمان، وقبل أن يتولى الفرعون «أمنمحتب الثالث» حكم مصر.
لقد وقع المؤلف أسير كلمة «فرعون» التى ترددت كثيراً مع قصة يوسف عليه السلام فى التوراة، فأحاطت به، فحاد عن الحقائق التاريخية التى أكد صحتها القرآن الكريم.
فملوك الرعاة (الهكسوس) لم يتشرف أحد منهم بحمل لقب «فرعون»، الذى يعنى «الباب العالى»، فقد كان مقصوراً على ملوك مصر من أبنائها المخلصين، ولم يخلعه المصريون على أى ملك أجنبى ومنهم «الهكسوس».
والقرآن الكريم يؤكد لنا هذه المعلومة، فعندما قص علينا قصة يوسف عليه السلام، ذكر أن الحاكم بمصر كان «ملكاً» وكرر لفظ «الملك» ست مرات، ولم يعطه ولو لمرة واحدة لقب «فرعون»، لأنه لم يكن مصرياً وإنما كان من ملوك الرعاة (الهكسوس)،
بينما فى قصص موسى عليه السلام الكثيرة كان يذكر حاكم البلاد بلقب «فرعون»، وذكره خمساً وسبعين مرة، ولم يسمه «ملكاً» ولو مرة واحدة، ذلك أنه كان فى هذا الزمان يحكم مصر أحد أبنائها، فالتفرقة بين اللقبين لحاكم مصر والتى أوردها القرآن الكريم هى حق اليقين، وهى الإثبات على أن دخول يوسف عليه السلام إلى مصر كان فى عصر الهكسوس (ملوك الرعاة).
وبناءً على ما سبق، فإن المؤلف قد أخطأ عند إقحامه الفرعون «أمنمحتب» فى هذا المسلسل، والصحيح أن الملك والوزير وزليخة وجميع الأفراد والمنشآت والحوادث كان لابد أن تنسب إلى الهكسوس وليس إلى المصريين، وبهذا يخرج آمون وكهنة المعبد من المسلسل.
وللحقيقة أيضاً، فعند دخول يوسف عليه السلام إلى مصر لم يكن الحصان والعربة قد استخدما بعد، فأول ظهور للحصان بمصر كان مع بدء المناوشات بين المصريين والهكسوس عند بدء حروب الاستقلال أواخر القرن السابع عشر قبل الميلاد.
وقد ذكرت التوراة أن «الفرعون» أطلق عليه اسم «صفنات فعنيح»، فمن أين أتى اسم «يوزر سيف» المذكور فى المسلسل؟!
وإذا أحسنا الظن بأصحاب المسلسل، وأنهم لم يقصدوا الإساءة إلى مصر عامة وإلى نسائها بوجه خاص.
جاز لنا أن نقول إن مسلسل «يوسف الصديق عليه السلام» الإيرانى هو تعبير عن رؤية المؤلف والمخرج لأحداث مشهورة وليست تسجيلاً تاريخياً لها، وهذه الدراما تظل محل إعجاب من يتابعها، وربما استفاد من الأفكار والنصائح والمواعظ التى تقدمها.
السيد محمد الملط
دبلوم الدراسات الإسلامية