هو أول من شخصن الأغنية، فكان ذلك هو سر نجاحه. حينما تستمع لأم كلثوم أو محمد عبدالوهاب ستجدهما شخصيتين فوق فكرة المطرب! ستجدهما شخصيتين اعتباريتين تغنيان لك، تعطيانك مع الأغنية محاضرات عظيمة متكاملة فى المحبة والشوق والغرام والهجر والفراق. لكن عبدالحليم حافظ يشكو إليك ألمه، هذه الآهة الخارجة من فمه آهته هو شخصيا، آهة الرجل المريض الفقير اليتيم، ليست آهة المطرب القدير المصطنعة بحرفة، فآهة الست أم كلثوم آهة معلمة، تعطيك درسا فى الألم بينما آهة حليم آهة صنفرتها البلهارسيا، وأضاءها اليتم، ورققتها الآمال.
أم كلثوم وعبدالوهاب يغنيان فوق المسرح للجمهور بهيبتهما وقدرتهما وبمسافتهما الفاصلة أيضا، وفريد الأطرش مثلا يغنى بحب وطيبة وإخلاص، وهو ينتظر رضاه وتصفيقه، يبذل روحه لفرح جمهوره وحزنه. أما حليم، فهو أنانى فى غنائه، يغنى لعبدالحليم نفسه، ستجد صوته فى الأغنية هو صوته الذى يتحدث به. وستتعجب مثلا حينما تسمع صوت أم كلثوم وهى تتلو قصيدة بصوتها قبل الغناء. ستجد نفسك أمام صوت محايد جاف قوى واعٍ ومدرسى. أما عبدالحليم حافظ، فهو شخصانى شجاع لدرجة أنه حينما يتهمه الصحفيون بالتمارض لكسب تعاطف الجمهور تجده يعود من رحلة العلاج ليغنى بعناد، أى دمعة حزن لا، هو مصر أن يصل بأحزانه إلى الناس بلا خجل، وسيستعذب الألم إلى ذروته مع ذلك القلب الموعود معه بالعذاب ويئن: (يا ليل آه يا ليل… يا حضن السهارى… ياللى شفت فى عينيا دموع وأنا دايما راجع وحيد). الكتّاب سيكتبون له أحزانه هو وبليغ، سيحول آهاته وأناته الليلية من الوجع إلى لحن أليم راقص وعلى المسرح سيعرض الرجل بضاعته هو وأحزانه هو، وستجد عبدالحليم فى الأغنية أكثر من الكلمات واللحن، ستجده مثلا أجمل من قال (أنا) فى أكثر من أغنية، وسيعيد، ويكرر الكلمة نفسها فى الأغنية الواحدة أكثر من مرة: (أنا اللى طول عمرى باصدق كلام الصبر فى المواويل) ويضيف أحيانا كلمة أنا حتى لو لم تكن موجودة فيقول (عاشق ليالى الصبر مداح القمر أنا عاشق) و(ماشى الطريق من كام سنة تعب الطريق ما تعبت أنا) إلى أن يقولها فى سؤاله الوجودى الصريح (أنا مين أنا؟).
الجيل السابق لحليم والمعاصر له يتعجب من سر نجاح الفتى الواهن الضعيف، فهو- على حد زعمهم- ليس بالصوت الأقوى ولا الأجمل، فما هو السر؟ ثم يبدأون بالهجوم دون وعى على السر نفسه، دون أن يعلموا، فيهاجمون شخصه وحزنه وضعفه ومرضه، وهم لا يدركون أن تلك الصفات نفسها هى سر نجاحه أيضا، ويرد هو عليهم بمزيد من الألم فى أغانيه وأحاديثه وكلامه، فيتهمونه باللؤم فى سوء تفاهم فنى تاريخى بين من يعتقدون أن الفن يجب أن يقدم من فوق منصة تحتها الجمهور وبين من يعتقد فى الفن الشخصى الملىء بالأنا الذى يقدم ولو من على فراش المرض.
لم يكن هو البسيط الوحيد فى طريقة الغناء، فبساطة محمد فوزى موجودة وطاغية، وكذلك سعد عبدالوهاب، فليس لعبدالحليم وحده فضل تخليص الغناء من التطريب المعقد، بل هناك تجربة عظيمة سبقته، وبدأت مع سيد درويش، لكن سره كحليم فى أنه أخذ الغناء إلى غرفته، وشاركه حياته ودواءه وعملياته الجراحية. بذل الجهد الكافى ليتوحد عمره مع غنائه.
لم يكرر عبدالحليم حافظ تجربته مثلا مع رياض السنباطى، وهو بالتأكيد يعرف قيمة هذا الملحن العظيم، لكنه يدرك جيدا أيضا أنه ابن منطقة فنية أخرى، هو لا يريد ملحنا عظيما رصينا يصنع له عملا قويا يجعل عبدالحليم يغنى من فوق المنصة الفنية، هو ليس أم كلثوم التى يضيف الملحنون فى كل عمل لها طوبة فى صرحها الكبير الصرح الذى صنع كوكب الشرق، وجعله خالدا، لكنه فى النهاية صرح على مسافة يتأمله الجمهور باحترام ووقار وتقدير، ولا يستطيع أن يلمسه.
لن ينجح السنباطى بكل عظمته أن يكون جزءا من حنجرة عبدالحليم الجريحة، ولا يريد عبدالحليم أن يصعد الصرح الممرد بقوارير السنباطى وزكريا أحمد، لكن الموجى والطويل وبليغ يعلمون آلامه، ويشاركونه سماعها فى الواقع، وهو بذكائه يقترب من الأقرب إليه، ليس من الأمهر فقط أو الأكثر امتلاء بالموسيقى، يختار الملحن الذى ترقص ألحانه على أحزانه، وتتأثر بها فيتأثر الجمهور، ويحزن مع الفتى الذى قضى عمره يطارد خيط دخان.