حروب القبائل فى مصر

جمال أبو الحسن الأحد 05-04-2015 20:59

أى متابع للشأن العام فى مصر سيلاحظ بسهولة أن البلد منقسمٌ إلى قبائل. هذا الانقسام تعزز واستفحل خلال السنوات الأربع الماضية. القبائل كلمة مقصودة فى هذا السياق. ليست معسكرات، ليست تيارات، ليست فرقاً، ليست اتجاهات، بل قبائل.

بإمكان المرء أن يُغير اتجاهه الفكرى. يحدث أحياناً- بل كثيراً- أن يتنقل الإنسان بين التيارات السياسية المختلفة. قد ينتمى المرء لحزب أو فريق ثم ينبذه ويتمرد عليه، وينضم إلى حزب آخر. قد يعتنق المرء رأياً فيبدله إذا ما ظهر له فساده. أما القبيلة فيستحيل تغييرها. لا يُمكن استبدال غيرها بها. تباين الموقف معها هو خروج عليها. خروج أبدى لا رجعة فيه، ولا تسامح معه. هو انسلاخ من الذات. مغامرة غير مضمونة العواقب بالنبذ فى العراء الفكرى والسياسى. بلا سند. بلا ظهر. بلا انتماء إلى كيان أكبر يمنح الفرد المعنى ويهبه الاطمئنان والسكينة.

فى مصر قبيلة كُبرى تُسمى «الإسلام السياسى». هذه القبيلة تعيش فيما يُشبه الكوكب المنعزل عن المسار العام للمجتمع. هى- كأى قبيلة- مكتفية بذاتها. مطمئنة لعزوتها، راضية بعزلتها. تظن العزوة سنداً، والعزلة كرباً عابراً لا يلبث أن ينفرج، كما جرى من قبل.

هناك قبيلة أخرى، أقل عدداً وأعلى صوتاً تُدعى «اليسار»، وهذه متخندقة فى مواقعها، تستلهم «الصمود» من نقاء أبنائها وطهارتهم المطلقة وإيمانهم بالقضية والمصير المشترك. شعارها أن «البركة فى القليل»، وأن الأغلبية ليست دائماً على صواب، وأنه «كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله»!

ثمة قبيلة ثالثة بلورت ذاتها- للمفارقة!- خلال سنوات «الغليان الثورى» التى أعقبت يناير2011. يحلو للبعض أن يُطلق عليها «الدولجية» (نسبة للدولة)، وأحياناً يُسمون مناصريها بالسيساوية (نسبة للرئيس السيسى). وهذه القبيلة تجمع حشداً أقل فى تجانسه مقارنة بغيرها من القبائل، وإن كانت لا تقل فى الحماسة أو الإيمان المطلق بالقضية، والكراهية الغريزية للقبائل الأخرى.

الحروب بين هذه القبائل الثلاث يشتعل أوارها فى كل مكان فى مصر، على الشاشات وصفحات الجرائد وعلى الإنترنت والفيسبوك وتويتر.

القاعدة الأولى فى هذه الحروب هى أنه لا فرصة لك لمُغادرة قبيلتك. إذا صار التمرد على القبيلة سهلاً ميسوراً، فكيف تستحق اسمها؟ كيف تبرر وجودها؟. لو سُمح بالخروج على القبيلة ومرّ مرور الكرام لاندثرت وتفسخت عراها وفشل ريحها. القيمة الأهم فى القبيلة هى الحفاظ على انتماء أبنائها لها، وانضوائهم تحت لوائها. الابن الضال لا مكان له. ليس هذا فحسب، بل هو مستحق لسوء العقاب. هو أخطر على القبيلة من أعدى أعدائها. هو جرثومة خبيثة تهدم بنيانها من الداخل. خلية سرطانية ويجب حصاره واجتثاثه، ثم طرحه فى العراء وحيداً شريداً حتى لا يفكر آخرون فى تكرار التجربة. هكذا تحفظ القبيلة تماسكها، وتعزز وجودها. (من هنا نفهم سر الهجوم المُركز القاسى على من انتقل- مثلاً- من قبيلة اليسار الثورى إلى قبيلة الدولجية، بداية بإبراهيم عيسى وانتهاء بمحمد منير).

القاعدة الثانية فى حروب القبائل، هى نصرة أخيك ظالماً كان أو مظلوماً. أصل النصرة هنا ليس فى مضمون الموقف الذى يتبناه «أخوك»، وإنما فى حقيقة انتمائكما المشترك للقبيلة. القبيلة ليست منتدى للأفكار الحرة، ليست مناقشة علمية موضوعية لآراء ينتصر فيها الأرجح والأنفع. هى انتماء قبل أى شىء آخر. هى ولاء للأخوة المشتركة، لا للأفكار أو القضايا. (من هنا نفهم سر تأييد البعض من ذوى العلم والفهم لظاهرة عجيبة مثل علاج الإيدز بالكفتة، أو مناصرة البعض الآخر لهدف عبثى وشبه غيبى مثل عودة مرسى).

القاعدة الثالثة هى الأهم على الإطلاق، وهى مُحصلة طبيعية للقاعدتين السابقتين: الحقيقة هى آخر ما يُهم فى حروب القبائل. الحقيقة يُمكن- وبسهولة- لى عنقها. تطويعها. إعادة تأويلها. المهم أن تنسجم فى النهاية مع ما نعتقد. الحليف الأول فى معركة «تطويع الحقائق» هذه، هو أحد أهم الاختراعات فى عصرنا: الإنترنت.

لاحظت «الناشونال جيوجرافيك» فى عدد مارس الماضى أن هذا العصر يشهد ما يُشبه «الحرب على العلم». تتزايد بأطراد أعداد هؤلاء الذين ينكرون التغير المناخى، أو يعارضون نظرية التطور، أو يعتبرون أن نزول الإنسان على سطح القمر كان مؤامرة محبوكة. هؤلاء يجدون فى الإنترنت ضالتهم المنشودة. لم تعد المعرفة العلمية حكراً على الجامعات ودائرة المعارف البريطانية كما كان الحال فى السابق. الإنترنت حققت «ديمقراطية المعرفة». يُمكن بسهولة أن تجد مادة على الإنترنت تؤيد وجهة نظرك، مهما كانت مُجافية للعلم أو مغرقة فى الخُرافة. الإنترنت- كما تقول المجلة- جعلت مُمكناً أن تعيش «فى فقاعات مُفَلتَرة لا تُمرر سوى تلك المعلومات التى توافق الآراء اللى تتبناها بالفعل»

شىء من هذا يحدث فى حروب القبائل فى مصر. هناك تفسيرات متوفرة- بحسب قبيلتك- للتحالف بين أمريكا وداعش (أو بين أمريكا وإيران)، أو للمؤامرة الأمريكية على السيسى (أو مع السيسى ضد الإخوان)، أو لانتماء الرئيس أوباما للإخوان المسلمين (أو أن أردوغان ماسونى)، أو لكون العاصمة الجديدة خرابا مستعجلا (أو أنها جنة موعودة). كل قبيلة من قبائلنا الثلاث لديها مددٌ لا يفنى من المعلومات والأفكار و«الإحصائيات» التى تؤيد أكثر المواقف إمعاناً فى الخرافة والجنون.

فى حروب القبائل، لا مكان للحقيقة.

gamalx@yahoo.com