أسئلة عديدة تطرح نفسها مع تكرار الهجمات الإرهابية التى تستهدف قوات الجيش والشرطة والمقار الأمنية والعسكرية فى شمال سيناء، دون أن توجد لها إجابة مقنعة، فبينما تكثف القوات المشتركة من تواجدها فى مختلف أنحاء سيناء، خاصة منطقة العمليات الممتدة من مدينة العريش حتى رفح، لم تتوقف العمليات المسلحة التى يبدو بعضها على درجة عالية من التخطيط، مثل عملية استهداف المقار العسكرية والأمنية فى العريش (الكتيبة 101 ومديرية أمن شمال سيناء) أواخر يناير الماضى.
تكرار الهجمات المسلحة فى سيناء يشير إلى أن عناصر التنظيم تتحرك بحرية نسبية فى المنطقة الحدودية الواقعة غرب مدينة العريش وحتى الشريط الحدودى مع غزة وإسرائيل، لكنه يشير بشكل أوضح إلى منطقة تمركز وانتشار جماعات مسلحة يقدر عددها بالمئات على أقصى تقدير، وفق عملية رصد واستقصاء قامت بها «المصرى اليوم» على مدار شهرين تواصلت خلالهما مع جميع الأطراف، بما فيها عناصر تنظيم أنصار بيت المقدس، الذى يطلق على نفسه اسم «ولاية سيناء»، لتتمكن من تفسير ما يحدث على الأرض.
كيف يتحرك عناصر «أنصار بيت المقدس» بين قرى الشريط الحدودى بحرية نسبية تمكّنهم من تنفيذ هجمات جديدة، وأين يختفون فى الفترة ما بين العملية والأخرى؟.. كان هذا أول الأسئلة التى حاولنا البحث عن إجابتها، من خلال مقابلات ميدانية مع سكان قرى الشريط الحدودى الذين بدوا غير مستعدين للإدلاء بأى معلومات، خوفاً من انتقام عناصر التنظيم، وهو الأمر الذى امتد إلى قلب مدينة العريش نفسها، مع تكرار العمليات الانتقامية التى استهدفت المتعاونين مع أجهزة الأمن وبعض ممن تورطوا فى الإدلاء بمعلومات خاصة بالتنظيم.
مسرح العمليات الفعلى للجماعات المتشددة المجتمعة تحت لواء «أنصار بيت المقدس» مؤخراً ينحصر فى عدد من قرى منطقة الشريط الحدودى ووسط سيناء، فيما يوصف أمنياً باسم «مناطق التمركز»، لكنه تمركز افتراضى، إذ يلجأ عناصر التنظيم إلى التنقل بين القرى الواقعة جنوبى الطريق الدولى «العريش – رفح»، وإن انحصر تمركزهم الافتراضى فى 7 قرى أساسية، تتبع جميعها مدينتى رفح والشيخ زويد، هى قرى «التومة، أبوالعراج، اللفيتات، الجميعى، المقاطعة، المهدية، والحسينات».
وينتمى العدد الأكبر من أعضاء أنصار بيت المقدس إلى هذه القرى، عدا بعض العناصر الوافدة من بعض محافظات الدلتا والصعيد، وهؤلاء يتمركزون بشكل أساسى فى منطقة وسط سيناء، جنوبى قرية «البرث»، حسب مصادر مختلفة من سكان الوسط، لن تتم الإشارة إلى أسمائهم أو صفاتهم حرصاً على سلامتهم.
وتُصعّب طبيعة المنطقة الصحراوية من مهمة قوات الجيش المتمركزة على الطريق الدولى «العريش- رفح»، بما توفره من غطاء طبيعى لعناصر التنظيم المتشدد، فضلاً عن جغرافيا المنطقة التى يعرفها سكانها بصورة أفضل بطبيعة الحال، لذلك تتوزع العناصر المسلحة بين قرى الشريط الحدودى، جنوب الطريق الدولى، وتتخذ من القرى المشار إليها محطة انطلاق لتنفيذ عملياتها، على أن يتم تبديل مسارات الذهاب والعودة فى كل مرة، لتبدأ العملية من أقرب قرية حدودية من الهدف المراد استهدافه، وتقصد بعدها العناصرة العائدة منها إلى قرية أخرى، متفق عليها مسبقاً.
وتشير خريطة العمليات المسلحة التى شهدتها المنطقة الحدودية على مدار الأعوام الثلاثة الماضية إلى مناطق ارتكاز جماعة «أنصار بيت المقدس»، ومسارات تحرك عناصرها فى كل عملية، إذ انطلق منفذو مذبحة رفح الأولى التى استهدفت جنود نقطة تأمين تابعة للقوات المسلحة بالقرب من كمين الماسورة، من قريتى «المهدية» و«المقاطعة» الواقعتين جنوبى موقع نقطة التأمين، على مسافة أقل من ثلاثة كيلومترات، قبل أن ينسحب منفذو العملية المعنيين بالتأمين باتجاه قريتى «التومة» و«أبوالعراج»، من خلال الطريق الأوسط الواقع بين طريقى «العريش – رفح» الدولى، و«العريش- الجورة». تكرر الأمر نفسه مع عمليات استهداف نقاط التأمين التابعة للقوات المسلحة بين رفح والشيخ زويد، وفى الهجمات التى استهدفت قسم شرطة الشيخ زويد، إذ انطلقت جميعها من قرى «التومة» و«أبوالعراج» و«اللفتات» من خلال الطريق الواصل بين مدينة الشيخ زويد ووسط سيناء، بينما انطلقت المجموعة التى نفذت مذبحة كرم القواديس من قريتى «الجميعى» و«اللفيتات» باتجاه الكمين الواقع على طريق «العريش– الجورة». وتكرر الأمر مع العملية التى استهدف مقر الكتيبة 101 ومديرية أمن شمال سيناء، لكن مع توسيع قواعد انطلاق المجموعات المشاركة فيها، إذ خرجت من قرى «التومة» و«أبوالعراج» من ناحية، و«اللفيتات» و«الجميعى» من ناحية أخرى؛ لتلتقى جميعها على طريق المطار المؤدى إلى موقع الكتيبة ومديرية الأمن، بعد أن هاجمت إحدى المجموعتين كمين «الطويّل» الواقع على طريق «العريش– الجورة».
أما تكتيك انسحاب المجموعات المسلحة بعد تنفيذ العمليات فيكشفه مصدر عسكرى ميدانى فى سيناء، مشيراً إلى توزيع المهام بين منفذى العمليات، فيختص فريق الانتحاريين بإلحاق أكبر قدر من الخسائر فى الهدف، فيما تؤمّن مجموعة تغطية الطريق أمام عودة مجموعات التأمين التى تكون قريبة من موقع العملية من خلال إطلاق كثيف للنيران، تؤمن خلاله غطاءً لانسحابهم، وتعمل فى الوقت نفسه على إلهاء قوات الأمن وتشتيتها عن وجهة الانسحاب الحقيقية المقررة بعد تنفيذ العملية.
وتشير مسارات تحرك المجموعات المسلحة المتشددة فى سيناء إلى شريط محدود ينحصر بين الطريق الأوسط المار بين طريقى «العريش – رفح»، بطول نحو 20 كيلومتراً، وحتى جنوبى طريق «العريش – الجورة» بعمق لا يزيد على 8 كيلومترات، ما يعنى أن مسرح عمليات «أنصار بيت المقدس» لا يزيد على مساحة 160 كيلومتراً، تنتهى بالقرب من الحدود المصرية مع إسرائيل، بعيداً عن المنطقة العازلة الواقعة بين حدود مدينة رفح وقطاع غزة، وخارج نطاق الأنفاق التى كانت موضع اتهام دائم بالمسؤولية عن دخول عناصر فلسطينية تنتمى إلى فصائل قطاع غزة المسلحة، لتنفيذ عمليات عسكرية ضد أهداف عسكرية وأمنية فى سيناء، وهو السيناريو الذى استبعدته معظم المصادر التى استندنا إليها فى هذا التحقيق، عدا المصادر الأمنية التى عزت إلى عناصر منتمية للقطاع الضلوع فى عمليات بعينها، على رأسها مذبحة رفح الأولى، وتفجير مبنى المخابرات الحربية فى مدينة رفح.
أكد ذلك مدير أمن شمال سيناء، اللواء على العزازى، الذى اتهم حركة حماس بدعم العمليات المسلحة التى تستهدف قوات الجيش والشرطة فى سيناء، مؤكداً أن تأييد الحركة للرئيس المعزول محمد مرسى كان أمراً معلناً ومعروفاً للجميع، وأرجع السبب فى ذلك إلى أن وجود جماعة الإخوان المسلمين التى ينتمى إليها الرئيس المعزول، والتى تعد حركة حماس أحد فروعها خارج الحدود، على رأس السلطة فى مصر مصدر قوة لـ«حماس» داخل قطاع غزة، لذلك حاولت الحركة بكل الطرق تفجير الوضع فى سيناء بعد عزل «مرسى».
أما تدريب عناصر «أنصار بيت المقدس» الذى يبدو أنه يتم على مستوى متقدم، فيتم- حسب مصدر مقرب من التنظيم - فى مناطق صحراوية بوسط سيناء، جنوبى قرى الشريط الحدودى التى يتمركز فيها عدد من أعضاء التنظيم النشطين، وعلى يد عناصر جهادية مدربة دخلت سيناء خلال فترة الانفلات الأمنى، واستقرت فى نقاط متفرقة بمنطقة الوسط البعيدة عن عمليات قوات الجيش والشرطة. وضرب المصدر مثلاً بعادل حبارة الذى قاد مذبحة رفح الثانية مع عناصر محلية من التنظيم، رغم أنه ليس من أبناء شمال سيناء، كونه أعلى تدريباً وأكثر خبرة فى العمليات الميدانية، مؤكداً أنه ليس الوحيد فى صفوف «أنصار بيت المقدس».
ويشمل تدريب أعضاء التنظيم، -حسب المصدر نفسه- تدريبات مكثفة على إطلاق الرصاص وقذائف الـ«آر بى جى» والهاون، إضافة إلى إعداد القنابل والمتفجرات. ويضيف المصدر: «تدريبات أعضاء التنظيم تتم فى منطقة وسط سيناء، على بعد 5 كيلومترات من الحدود المصرية مع إسرائيل، فى عمق الصحراء». وكشف المصدر الذى يعيش فى إحدى قرى منطقة الشريط الحدودى أن منفذى العملية التى استهدفت الجيش الإسرائيلى، والتى عرفت باسم «أم الرشراش»، تدربوا على تنفيذها طوال شهر كامل.
ويلجأ أعضاء التنظيم إلى تكتيكات دفاعية لتأمين مناطق تمركزهم الاحتياطية فى وسط سيناء، خلال المداهمات الأمنية أو التخطيط للعمليات الجديدة. وبحسب مصادر من وسط سيناء يستخدم أعضاء التنظيم سيارات دفع رباعى من طراز «تويوتا» تشتهر فى المنطقة باسم «التويوتا التايلاندى»، نسبة إلى بلد صناعتها، ويلجأون إلى تمويهها بالطين الأصفر لتقترب من لون رمال الصحراء. ويتم إنزال السيارات فى أنفاق مخصصة لذلك، ومغطاة بشباك تمويه أشبه بالمستخدمة فى تغطية المواقع العسكرية، لإخفائها السيارات عن طائرات القوات المسلحة التى تقوم بعمليات مسح جوى للمنطقة فى بعض الأحيان.
الأمر نفسه ينطبق على الأسلحة التى يتم تخزين جانب منها فى خنادق مماثلة، على بعد كيلومترات قليلة من الحدود مع إسرائيل، وفى بعض الأحيان يتم إخفاء سيارات التنظيم المحملة بالأسلحة فى الخنادق المخصصة لذلك، ولا تخرج إلا عند استخدامها فى إحدى العمليات المخطط لها.
أما اتصالات عناصر التنظيم فتتم من خلال أجهزة لاسلكى حديثة، وشبكات هاتف محمول غير محلية «أورانج الإسرائيلية»، أكد ذلك مصدر أمنى فى العريش، مشيراً إلى أن الشبكات الإسرائيلية تستخدم فى المنطقة القريبة من الحدود منذ فترة طويلة فى عمليات التهريب، لأن تغطية الشبكات المصرية لم تكن تصل إلى هذه المناطق. ويضيف: «بعد 30 يونيو تم قطع شبكات المحمول وخطوط الهاتف الأرضى؛ فلجأ السكان إلى استخدام الخطوط الإسرائيلية».
ويكشف مصدر قريب من «أنصار بيت المقدس» عن الهيكل التنظيمى للجماعة، مؤكداً أن بناء التنظيم «هرمى»، يأتى على قمته «أمير»، يتبعه «نائب»، ثم مجلس شورى. ولا يتم اتخاذ أى قرار إلا بإجماع الآراء. كما يشير المصدر إلى وجود جناح عسكرى للتنظيم، هو المسؤول عن التخطيط للعمليات وتدريب العناصر، بالإضافة إلى الجناح المعلوماتى، الذى يشبه جهاز مخابرات مصغراً، يتولى مسؤولية جمع المعلومات ومتابعة العناصر المتعاونة، والتى تؤمن -حسب المصدر- المعلومات التى يحتاجها التنظيم عن تحركات قوات الأمن والجيش، ليتم تحذير العناصر القريبة من مواقعها. ويؤكد المصدر أن النسبة الأكبر من أعضاء التنظيم غير ملتحين، ولا يتشددون فى أمر إعفاء اللحية مثل التيارات السلفية، كونها علامة مميزة قد تتسبب فى وقوعهم فى قبضة قوات الجيش والشرطة.