مصر الحال والأحوال.. برامج قتل المواهب «٦»

عبد الرحيم كمال الأربعاء 01-04-2015 21:26

أفضل وسيلة لخلق حالة من النسيان الجماعى لشخصية عامة - أثرت إيجابيا فى المجتمع- هى أن تضع اسمها على شارع من الشوارع، ليتحول اسم هذا الرجل أو تلك المرأة إلى حالة من الزحام اليومى أو كلمة تقولها لسائق التاكسى ليعلم موضع نزولك أو جملة مكررة على لسان صبى الميكروباص ليظل يرددها بنغمة رتيبة وهو يفتح باب الميكروباص وتطير الكلمة لتحط على آذان المنتظرين فيسرعون بالركوب، من منا سيربط بين شارع عباس محمود العقاد مثلا وبين الرجل أو أن يربط بين الشارع الصغير الهادئ فى وسط البلد وبين السيدة هدى شعراوى وهل كان عبود باشا يعلم أن اسمه سيكون لبانة فى يد الصبى الصارخ عبود عبود عبود،

وهكذا أعتقد أيضا فى برامج المواهب التى انتشرت على الفضائيات لتكتشف الأصوات الجميلة أو تلك التى تكتشف فكرة النجومية أو أفضل راقص وراقصة، وأخيرا برنامج مذيع العرب فهى فى الظاهر كما يبدو برامج تسعى وراء اكتشاف المواهب ودعمها وتقديمها للجمهور لخلق جيل جديد من المواهب لكنها فى الحقيقة تصنع العكس تماما، فالمواهب الحقيقية فى نسختها الأصلية حرة وجديدة تأتى بالاختلاف والحداثة فى تفاصيلها ونبرتها وطريقة أدائها، لن تكون الموهبة موهبة حقيقية ولامعة إذا كان المعيار أن تكون نسخة من موهبة أخرى ماتت منذ سنوات، ليس جل ما تقدمه الموهبة الجديدة لنا أن تكون نسخة من أم كلثوم أو عبدالوهاب أو عبدالحليم. والمواهب الجديدة لن تصل أبدا للجمهور عبر ذائقة ثلاثة آخرين اعتلوا المنصة وامتلكوا الأزرار والكراسى، فاكتشاف المواهب لن يكون عبر مطربين آخرين ولكن عبر صناعة الغناء نفسها، لم يكتشف عبدالوهاب عبدالحليم لكن صوت عبدالحليم سعى كنبتة تحاول الظهور والخروج من التربة إلى هواء جديد، وعبدالوهاب نفسه لم يكن اكتشافه عبر مطرب يسبقه ولكن عبر شاعر كبير بقيمة أحمد شوقى، الموهبة حالة كاملة من الحياة لا تحتاج إلى قرار من مطرب غابت عنه الحفلات أو عبر رسائل من جمهور يختلف بالأساس عن الجمهور الأصلى للسباق فجمهور الغناء مثلا ليس هو جمهور البرامج بل يكاد يتناقض معه تماما، الأغنية جمهورها فى مكان آخر بداية من الأجيال القديمة حيث الراديو والكاسيت أو السى دى وانتهاء بالشباب الذى يعيش مع أغانيه على اليوتيوب، أما جمهور برامج المواهب فهو جمهور آخر، جمهور برامج يهتم بملابس مقدمى البرنامج وتعليقاتهم وضحكاتهم وقفشاتهم والتنافس اليومى الوهمى المثير الذى يبدو أنه مرسوم بشكل حرفى مستورد يفتقد الصدق فالحلقات الأولى ستجد لجنة التحكيم الثلاثية تلعب دور (النوبتجى) فى الأفراح الشعبية فيصرخ مع كل آهة للمتسابق ويبالغ فى ذكر أن برنامجه أفضل برنامج فى الكرة الأرضية ويصفق ويقف للأخنف والألثغ والأهتم وفاقد الحروف بمبالغة لا تليق ثم مع التصفيات النهائية يأخذ فى التريث والتعالى وادعاء الانتقاء والمهنية والحرفية وتضييق خروم الغربال الذى صار قديما ويختتم المولد بصوت اختارته آلية الرسائل القصيرة من جمهور شكلانى تم تدريبه لمدة شهر وتوجيهه ليختار صوتا قريبا من صوت مات قبل ذلك ولكن ببريق أقل من صوت المرحوم فى تكريث لفكرة تنجيم الموهبة المحدودة حتى تنجح وتلمع وتختفى أيضا فى أسبوع واحد، لننتقل بعد ذلك إلى برنامج آخر يرسخ نفس الفكرة ويسحب الجمهور معه فى سباق عقيم يدعم موهبة لا تستحق، وهكذا هى برامج معنية بفكرة الشكل والإطار المرسوم الميت، والموهبة أساسا فكرة معنية بالحياة وبالمعنى وبكسر الإطار، فالبرنامج يسير فى الاتجاه المعاكس لفكرة الموهبة ويكرس للمواهب المعلبة الجاهزة قصيرة العمر فيظهرفى نهاية السباق مجرد شبيه لنجم من النجوم الحاليين أو من ماتوا ثم يختفى… هذا النوع من البرامج تعطيل رهيب لفكرة ظهور جيل جديد حقيقى من المواهب، فالمواهب من المستحيل أن تصنعها البرامج ولكن المواهب هى التى تصنع وتغير كل شىء، ماذا لو دخل السباق موهبة جديدة مختلفة تفوق فى لمعانها لمعان الثلاثة الجالسين فى أبهى زينتهم يقيمون ويتابعون؟!

بالتأكيد ستعجز ذائقتهم عن التعامل معها وسيلفظونها بالإجماع وعن قناعة فهم يقاومون ما لا يعرفون، المواهب وهبها الله للناس حتى يستمتع بها الناس، يمنح الصوت الجميل فتطرب الآذان وتختاره ويمنح الطلة الجذابة فيدفع الناس التذاكر ويذهبون إليه من بيوتهم وينصبونه نجما، هى مواهب لا يمنعها مانع ولا يدفعها دافع ولا يرجحها ثلاثة لم يكتمل مشوارهم بعد ليتم فرض نجم على الملايين ثم نسيانه، ولكن المواهب تشق طريقها للحياة بقوة أكبر من برنامج مصنوع ولجنة هشة ومواهب ماتت من قبل أن تظهر...