وانلي.. عفريت رمبرانت

جمال الجمل الثلاثاء 31-03-2015 03:32

عاش الأخوين وانلي سيرة فنية وإنسانية مليئة بالدراما، بكل مايتضمنه هذا الوصف من صراع، ومعاناة نفسية ومعيشية، وتحولات حادة، ودأب عنيد، ونجاحات مذهلة، وقد فوجئت بمحرك البحث العالمي جوجل يحتفل بذكرى ميلاد الأخ الأكبر سيف وانلي، وسألت نفسي: مالذي يدعو جوجل للاحتفال بالذكرى 109 لمولد هذا التشكيلي المصري؟، لقد تعودنا على الاحتفال يالمئوية أو اليوبيل الذهبي أو رقم ذي دلالة، فهل هناك دلالة لرقم 109 في حياة آل وانلي؟

حاولت البحث عن إجابة، فوجدت أن حياة آل وانلي رحلة عجيبة مليئة بعلامات التعجب والاستفهام التي تتفوق على سؤال الـ 109، فتعالوا نتأمل معا بعض جوانب الدراما في هذه المسيرة.

لوحة اختارتها جوجل للاحتفال بذكرى ميلاد سيف وانلي - زيت على خشب

محمد سيف الدين وانلي فنان تشكيلي ولد بالإسكندرية في 31 مارس 1906، وبعده بعامين ولد شقيقه إبراهيم أدهم، وعاشا في قصر جدهما للأم بحي محرم بك معقل الطبقة الأرستقراطية حينذاك، لم تتوفر معلومات تفصيلية عن الأب (اسماعيل نجل السنجق محمد وانلي باشا)، ولا عن الأم (عصمت هانم الداغستاني نجلة عرفان باشا)، لكن الثابت أن العائلتين من الأرستقراطية الأجنبية التي كرست وجودها في مصر خلال حكم محمد على باشا، ورجحت معظم الشهادات التاريخية انحدار عائلة وانلي من منطقة بحر قزوين، وعائلة الداغستاني من المغول المسلمين في شرق آسيا، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الأصول الأجنبية إلى نوع من العزلة داخل القصر، والارتباط بتقاليد مغلقة ومتوارثة منها عدم إلحاق الأبناء بالمدارس، والاكتفاء بتعليمهم على يد مدرسين خصوصين خلف أسوار البيت، وذلك على عكس الأرستقراطية المصرية التي بادرت منذ بداية القرن العشرين في الانفتاح على التعليم بالمدارس (محمود سعيد نموذجا)، بل أن دعوة مصطفى كامل لتأسيس أول جامعة مصرية كانت في نفس العام الذي ولد فيه سيف، وافتتحت في العام الذي ولد فيه شقيقه، لكن آل وانلي احتفظوا بتقاليدهم داخل أسوار القصر، وحدث أن الولدين تأثرا بتوجيهات مدام إيدول مدرسة اللغة الفرنسية، وحكايتها عن الانطباعية وسيزان وديجا ورينوار، واستجابا لتشجيعها لهما على زيارة المتاحف ومعارض الفنون، فلم تكن الاسكندرية في ذلك الوقت خالية من الحركة الثقافية، ولم تنتظر نضوج الأخوين وانلي لتأسيس الحركة التشكيلية في الثغر (كما يروج معظم النقاد)، بل أنهما نتاج لهذه الحركة التي شارك فيها أيضا العشرات من الأوروبيين الذين نزحوا إلى مصر هربا من أزمات الكساد الاقتصادي وأجواء الحرب العالمية الأولى.

وذات يوم اشترى سيف عددا من مجلة «الجديد» وقرأ مقالا لمؤسسها محمد المرصفي عن الفنان الهولندي رامبرانت، واستولت عليه سيرة هذا الفنان العظيم، فتعلق بالقراءة عن الرسم والرسامين.

الغريب أن ناقدا كتب يقول إنه سمع سيف وانلي يتحدث عن علاقته برامبرانت فيقول بالنص: «اكتشف أخيرا أنني ولدت في نفس اليوم والشهر الذين ولد فيهما رمبرانت، وعندما أبدأ الرسم أشعرأن الذي يحرك يدي هي روح الفنان رمبرانت، ةالأكثر غرابة أنني عندما أنظر إلى اللوحة البيضاء، لا أراها بيضاء. وإنما نصف مرسومة، بحيث أضع الالوان لملء المساحات التي أراها وحدي بمساعدة رامبرانت»!

كيف نصدق مثل هذا الكلام، وكل المعلومات التاريخية الموثقة تؤكد أن سيف ولد يوم 31 مارس، ورامبرانت ولد يوم 15 يوليو، والتشابه الوحيد بينهما في تاريخ الميلاد هو العام السادس ولكن بفارق ثلاثة قرون، فقد ولد الهولندي 1606 وولد السكندري 1906، كما أن ناقدا آخر يحدثنا عن افتتاح الأخوين لمرسهما عام 1932، مع أن الثابت تاريخيا أنهما في هذا الوقت كانا تلميذين في مرسم الفنان الإيطالي أوتورينو بيكي الذي دخل الاسكندرية خريف العام 1930 وغادرها 1934، وفي منتصف العام التالي افتتح الاخوين وانلي أول مرسم لهما بالاشتراك مع زميلهما الفنان المنسي أحمد فهمي، فقد بدأ هذا الثلاثي رحلة الفن، تعلموا معا، ورسموا معا، وتشاركوا في كل شئ، حتى رحل أدهم عام 1959 وتلاه أحمد فهمي عام 1964 ليدخل سيف حالة حزن واحباط، سرعان ما خرج منها بمساعدة الموديل «إحسان مختار» التي تعرف عليها شقيقه أدهم، ثم تزوجها سيف في مرحلة متأخرة من عمره (عام 1974)، وظلت رفيقة الفن والحياة حتى رحيله أثناء رحلة علاج بالسويد عام 1979.

هذه الحياة الدراماتيكية للثلاثي الذي تحول بفعل الكسل النقدي إلى ثنائي فقط، ليس فيها ما يدعو للخجل أو التستر، فلا يعيب الأخوين أنهما لم يحصلا على شهادات دراسية، وأن سيف اضطر للعمل في وظيفة صغيرة في أرشيف الجمرك، بينما عمل شقيقه أدهم موظفا بمخزن كتب تابع لوزارة المعارف التعليمية بالإسكندرية، ولا يعيبهما ماحدث من تآكل للطبقة الأرستقراطية وضياع مميزاتها وتفكك تقاليدها، ما اضطرهما للخروج من القصر، والالتحام بالحياة الشعبية في الاسكندرية، والتردد على معارض الفنانين، والتعرف على المؤسسات الناشئة في هذا الوقت، فقد بدأ تدهورت أحوال الأسرة وسيف يدخل مرحلى الصبا، فغادروا القصر إلى فيلا أصغر في حي «بولكلي»، ولما تدهورت الأحوال المالية أكثر انتقلوا عام 1916 إلى منزل على ترعة المحمودية بمنطقة غربال الريفية، وهناك كانوا يشاهدون الكثير من الأجانب يذهبون لرسم المناظر الطبيعية، ولعدة سنوات فشلت الاسرة في إلحق الأخوين بمرسم «أّرتور زانييري» أستاذ الفنان محمود سعيد، لأن أجره الشهري كان كبيرا، ثم وجدا فرضتهما في الانضمام لجمعية هواة الفنون الجميلة التي اسسها الفنان حسن كامل بعد سنوات من ثورة 19، وسافرا مع الجمعية في رحلة إلى القاهرة لزيارة معرض لجماعة الخيال التي اساسها النحات الاشهر محمود مختار، وعاد الأخوين من القاهرة برغبة جارفة في التمسك بالرسم، وجاءت الفرصة في مرسم بيكي الذي اهتم بتعليمهم التلوين والتصميم بشكل احترافي، لذلك غلبت الصنعة على أعمالهما، فلم يلتزما بمدرسة، ولم يتقيدا بأسلوب، وكانوا يرسمون كل شئ بسرعة مذهلة وشوق محموم للفن، حتى أنهما في أسبوعين فقط خلال رحلة نظمتها وزارة في نهاية الخمسنات ضمن مشروع انقاذ آثار النوبة أثناء بناء السد العالي.. أنجزا 150 لوحة زيتية، و300 لوحة بالألوان المائية و1400 اسكتش!.

ويفسر الناقد والفنان مكرم حنين هذه الغزارة بأن «الفن بالنسبة لسيف وأخيه كان هو الحياة ذاتها»، ولذلك كانوا يرسمون وسط التجمعات الشعبية من نوادى ومراقص وحفلات أوبرالية أو باليه، بل ورسموا في المقاهى العامة وعلى شواطئ البحر، وكانت لهما مقدرة عجيبة في رسم الإسكتش السريع وتصميم تكوينه بفطرية هائلة دون الإهتمام بالقيود الأكاديمية.

الأكثر دراماتيكية في سيرة آل وانلي أن الأيام التي أخذت منهم الكثير أعطتهم الأعظم والأخلد بنفس اليد التي حرمتهم من امتيازاتهم الطبقية القديمة، فالمعاناة التي عاشها الأخوين، نقلتهما من حالة فناني القصور الذين يرسمون للمتعة، إلى أحوال الشعب وجددت علاقتهما بالشارع السكندري حتى أصبحا من معالم المدينة، يفرح شعب الاسكندرية بنجاحهم، ويحفظ تاريخهم، ويتعاطف مع أحزانهم.

هكذا انتصرت الإرادة وحب الفن على العوز وانهيار الطبقة، وشعر الأخوين معا بفرحة أول عائد من الهواية في الثلاثينات عندما أهدى مدير النادي الأوليمبي كل منهما ساعة ثمينة مقابل لوحات فطرية سجلوا فيها انطباعاتهم عن النشاط الرياضي، وشعروا بالانتشاء كفنانين محترفين عندما قرأوا مقالا لمراسل اللوموند (22 يونيو 1956) يصفهما فيه بأنهما خلفاء الفنان الفرنسي الشهير إدجار ديجا، تعليقا على لوحاتهما عن زيارة فرقة باليه أجنبية للاسكندرية قبل ذلك بعشر سنوات، وشعروا بحب الناس وتضامنهم، وتقدير الدولة لهما، حيث اختارهما الدكتور أحمد عثمان عميد كلية الفنون الجميلة بالإسكندرية لتدريس التصوير بالكلية عند تأسيسها، وحصل سيف بعد ذلك على جائزة مصر التقديرية، وصار تاريخه الفني مع شقيقه أعظم أثرا عند السكندريين والمصريين عموما من تاريخ القصر الضائع وساكنيه من السناجق والباشاوات.

راقصة هندية - جواش على ورق

tamahi@hotmail.com