منذ أن أطلت علينا صرعة «الأم المثالية» لم أعد أرى عيد الأم إلا مناسبة سخيفة نجح الهكسوس الإعلامى فى تجريدها من جمالها ووقارها وحولها إلى سوق بلدى تضم أمهات المسؤولين والكبراء والوجهاء أصحاب النفوذ والسلطان، وإلى جوارهن بعض فنانات الغبرة من اللواتى لا نعرف عن مثاليتهن أى شىء لكننا نسمع عن مثلية بعضهن!
ولأكون صريحاً لا أخفيكم أننى أفزع من فكرة أن يكون هناك شخص مثالى.. دائماً هذه الأصناف تخيفنى ولا أشعر معها بالأمان أو نحوها بالتقدير، وتعيد هذه الصفة تذكيرى بالعيال الذين زاملونى فى المدرسة والجامعة ممن لم يُحسنوا فى حياتهم سوى المذاكرة وصم الكتب وحفظ المقررات.. هؤلاء الذين كانوا أقرب إلى الروبوت البشرى دون حياة أو روح، وإنما لهاث من أجل الدرجات العالية ورضا الأساتذة والفوز بلقب الطالب المثالى على حساب أيام الصبا الجميلة المليئة بالضحك والمرح والرحلات والأنشطة. كنت أشعر بالضيق من هؤلاء الزملاء ولا أحس بأى شىء يربطنى بهم، خاصة أن تعلقهم بأستار المدرسين وسعيهم لاكتساب محبتهم كان ثمنه فى الغالب القيام بدور الواشى أو «المواطن الشريف» بمفهوم هذه الأيام!. كذلك إذا نظرت إلى الموظف المثالى أو العامل المثالى فلن تجده شخصاً طبيعياً ممن يمكن مصادقته وإنما ستجد فى الغالب كياناً بلاستيكياً أقرب إلى الزومبى وستجده مشغولاً بالمنافسة وتحقيق الفوز وإرضاء المدير دون أن يحفل بالروابط الإنسانية التى يصعب أن يكون المتمسك بها والحريص عليها مثالياً!.
وبالنسبة للأمهات لم أفهم أبداً لماذا يجب على الأم أن تكون مثالية؟ ألا يكفى أن تكون سيدة عادية تفعل ما عليها تجاه بنيها وبناتها؟ إنهم دائماً ما يأتون كل عام بسيدة يقدمونها على الشاشات بحسبانها أرملة مات زوجها وترك معها أطفالاً صغاراً فرفضت الزواج ونذرت نفسها لأولادها وعاشت محرومة من كل مباهج الحياة حتى تخرج أولادها فى الجامعة وأصبحوا من ذوى المراكز المرموقة.. إن هذه القصة تصيبنى بالضيق لأنها مستقاة من الأفلام البالية لعزيزة أمير وأمينة رزق.. ماذا لو تزوجت هذه السيدة برجل يصونها ويسعدها فتربى أولادها وتصل بهم لنفس النتيجة؟ ماذا لو حافظت على صحتها وشاركت أولادها الطعام ولم تحرم نفسها من اللقمة؟.. ألا تكون أماً جيدة إلا إذا أصابتها الأمراض نتيجة الحرمان؟ أنا أعلم حقيقة الفقر الفارش ملاءته على الوطن كله وأدرك أن الأحوال المادية للكثير من الأسر تجعل الأم والأب يؤثران الأطفال على أنفسهما، لكن الأم التى تسرع نحو الأنيميا والفشل الكلوى لا تسدى خدمة للأولاد، ومن الأفضل أن تأكل معهم حتى لا تموت وتتركهم للضياع والتشرد.. ثم إن حدوتة التضحية حتى يكبر الأولاد ويتخرجوا فى الجامعة ويصبحوا من نجوم المجتمع غير واقعية وغير معقولة، والواقعى أنهم تخرجوا ولم يجدوا عملاً فأضاعوا على أمهم فرصة أن تكون مثالية! والحقيقة أن الشركات والمؤسسات لم تعد تعين أبناء الشقيانين، وكذلك الشرطة والنيابة والقضاء والخارجية والتمثيل التجارى لن تقبل أولاد امرأة مكافحة فقيرة.
الأم المثالية هى شىء غير بشرى وغير طبيعى، والإصرار على وجودها يجعلهم يكذبون ويخترعونها اختراعاً، مع أن أمهاتنا العاديات خيرٌ وأبقى!