عندما يحكمُنا الجهلُ المُسلّح!

أنور الهواري الأربعاء 25-03-2015 21:27

«إن من الخير لنا والأجدى، بل الضرورى، أن تختفى هذه النغمةُ السطحيةُ البلهاءُ والجهولُ وتنقرض إلى الأبد من حياتنا الفكرية، نغمة عاصمة جديدة، فهى إن دلت على شىء، فإنما تدل على أن الجهل، الجهل المُسلَّح، لا يحكم ويتحكم فحسب، بل يخطط ويصمم أيضاً». شخصية مصر، المجلد الرابع، ص 377..

هكذا يتحدث الدكتور جمال حمدان عن عاصمة مدبولى باشا الكبير- وزير الإسكان الفلتة اللى فاكر نفسه جوهر الصقلى- يقول حمدان عن عاصمة مدبولى: «لا يمكن للجغرافىّ- يقصد عالم الجغرافيا- خاصة جغرافىّ المدن، أن يتصور اقتراحاً أشد خطأً، وانحرافاً، وسخفاً».

أولاً: إذ يبعد موقعُها عن مطار القاهرة خمسة وثلاثين كيلومترا فقط، فلا تعدو- فى واقع الأمر- أن تكون ضاحيةً لها، بعيدة منفصلة اليوم، لكنها مُلتحمة بها ومُبتلعة فيها غداً. وبهذا المعنى، فإنها ليست عاصمة جديدة لمصر، بقدر ما هى ضاحية جديدة لعاصمة مصر، أى فرساى القاهرة.

ثانياً: ولكن لأن المشروع- المُقترح لها- يجعلها عاصمة صناعية أيضاً، كما يجعلها ميناء بحريا على فرع لقناة السويس، فإنها ليست فرساى القاهرة، بقدر ما هى ظلٌ للسويس، أو بقدر ما هى الإسماعيلية الداخلية [أو الإسماعيلية الجديدة].

ثالثاً: فى الحالة الأولى- أى حالة فرساى القاهرة- فإن القاهرة الأم أقدر على أداء وظيفتها السياسية من هذه الضاحية الضائعة ولا نقول اللقيط. أما فى الحالة الثانية- أى مدينة سويس جديدة أو إسماعيلية جديدة- فإن أياً من السويس والإسماعيلية أقدر على أداء وظيفتها الصناعية والتجارية من هذه العاصمة الخلفية المتخلفة المكلفة. وفى الحالتين، فلا داعى لها وظيفياً ولا مبرر. هذه العاصمة المقترحة تهزمُ أغراضها بنفسها، وتسخرُ من نفسها بنفسها.

رابعاً: هذا المشروع- بحُسن نية- يقدم عاصمة مصر هدية ذهبية على صفحة فضية، أو لقمة سائغة على ملعقة ذهبية، للعدو الإسرائيلى المتربص الجاثم شرقاً.

فهو إذ ينقل قناة السويس إلى أقدام العاصمة المقترحة، فإنه يفتح أبوابها: لغواصات العدو تحت الماء، ولمدمراته فوق الماء، ثم لطيرانه وصواريخه فى السماء. وفى أى مواجهة جديدة مع العدو- وكما تسقط مدن القناة عادةً فى أول ضربة- تسقط عاصمة مصر [العاصمة الجديدة] فى الأربع وعشرين ساعة الأولى، لنشرع- بكل الجد الوطنى والحزم والنشاط المعهود- فى تهجير العاصمة إلى عمق الوادى.

إن من الصعب أن يتصور المرءُ تخطيطاً أكثر خطأً من هذا استراتيجياً وعسكرياً، مثلما هو تخبط مُخِلٌّ سياسياً واقتصادياً.

خامساً: الخلاصةُ الحتميةُ أن اقتراح العاصمة الجديدة يصحح خطأً قائماً، بخطأ جسيمٍ أفدح وأشد نُكراً، خطأً قابلاً للعلاج بخطأ قاتل، بل انتحارى، فهو يقتل عاصمةً حيةً ليخلق عاصمة ميتة، فمثل هذا المشروع ليس حُكماً بالإعدام على القاهرة ولكنه حُكمٌ مُسبقٌ على العاصمة الجديدة نفسها.

سادساً: إن القاهرة- تلقائياً- سوف تدافع عن نفسها، بقوة الجغرافيا الحاكمة، وبثقل التاريخ المجيد، ومجدها العالمى المرموق، وستظل عاصمة مصر إلى آخر التاريخ. وقد تخسر القاهرة- عندئذ- الكثير، ولكن مصر سوف تخسر أكثر. وحتى لو حدث- بالفعل- ونقلتُم العاصمة، فلن تحلوا المشكلة، بل ستضاعفونها، ستخلقون عاصمة هزيلة عاجزة فجة، دون أن تعالجوا أمراض القاهرة، بأخطبوطها المتمدد، أو سرطانها الزاحف.

سابعاً: إن فكرة العاصمة الجديدة تنبع من انكسار مُخل فى الرؤية، بل من رؤية خاطئة جذرياً، تضع العربة أمام الحصان وترى الهرم مقلوباً، والعجيب أن الفكرة تصدر عن أجهزة الدولة نفسها.

ثامناً: مصر لا تصلح لها عاصمة اصطناعية ولا هى تحتاج إليها، وفضلاً عن هذا، فإن القاهرة جزء لا يتجزأ من شخصية مصر، مصرُ والقاهرة صنوان لا يفترقان فى الواقع وفى الذهن.

تاسعاً: القاهرة- للأسف- أصبحت مثل القطن المصرى طويل التيلة: القطن هو أفضل ألياف فى الدنيا ولكن أسوأ صناعة نسيج. والقاهرة هى أفضل موقع عاصمة فى العالم ولكن أسوأ نمو مدنى. غير أن كليهما مُفترى عليه، متهم برىء، ضحية ونحن الجناة.

عاشراً: إن فكرة العاصمة الجديدة ليست تخطيطاً مُفكّراً، بقدر ما هى انحرافة تخطيطية. ليست مُخيّلة جريئة أو رؤية جديدة، بقدر ما هى شطحةُ خيالٍ مريض، ونظرة تقليدية معوجة. فإن ما تحتاجه مصر ليس عاصمة جديدة، بل خريطة جديدة، والمطلوب ليس نقل العاصمة، وإنما ضبط العاصمة.

آخرُ الكلام: الخطأُ- فى القاهرة- ليس فى موقعها كعاصمة، ولا هو فى عاصمتيها كمبدأ، فهى العاصمة الخالدة المُخلَّدة لمصر.

إنما الخطأ- فى القاهرة- أنها تجاوزت السقف الأعلى لحجمها الأنسب، سواء بالنسبة لموضعها المحلى، أو لحجم سكان الدولة.

السؤالُ إذن: ما الحل؟.

الحديث مُستأنف.