تساؤلات حول حفر 3500 بئر فى مصر

مصطفى محمود سليمان الأحد 22-03-2015 22:02

أزعجنى الخبر المنشور فى صحيفة «المصرى اليوم»، بتاريخ 12/11/2014 المنسوب لوزير الرى والموارد المائية وفيه «أن الوزارة سوف تحفر 3500 بئر مياه جوفية لخدمة 6500 فدان ضمن أراضى مشروع استصلاح المليون فدان فى الصحارى المصرية»، ولو صح ذلك فإنه سوف يمثل تكرارا «ممتازا» لتجارب الفشل فى استصلاح الأراضى الصحراوية اعتمادا على المياه الجوفية المحدودة وغير المتجددة ليس فى مصر وحدها، وإنما فى السعودية وليبيا والجزائر والأردن وغيرها فى السنوات السابقة..

يخطئ من يتصور أن حفر آلاف الآبار وضخ المياه الجوفية العميقة بكثافة عالية (وهى مياه أحفورية محدودة وغير متجددة) يساعد على حل مشكلة العطش بالصحراء أو تعميرها، فقد انقلب التفاعل بالعثور على كميات كبيرة من المياه الجوفية فى كثير من الصحارى العربية إلى خيبة أمل بعد تقلص المخزون المائى بسرعة مخيفة ونضبت بعض العيون الطبيعية وجفت الآبار القديمة كما حدث فى واحات الإحساء بالسعودية، فقد شهدت فترة الستينيات من القرن الماضى توسعا فى حفر الآبار فى هذه الواحات مما تسبب فى نضوب بعض العيون الطبيعية، مما حدا بالحكومة السعودية أن حدت من حفر الآبار داخل الواحات، وتشير هذه الواقعة إلى أن المياه الجوفية غير متجددة، وإن وجدت فى خزانات كبيرة الحجم، فهى مياه محدودة وسوف تنضب ولو بعد حين، وما لوحظ فى واحات الإحساء فى السعودية فى ستينيات القرن الماضى كان معروفا لسكان الواحات فى الصحراء الغربية بمصر، كما أشار إلى ذلك التقرير الأولى عن مورد المياه فى واحتى الخارجة والداخلة الذى وضعه الجيولوجى الإنجليزى «جناب المستر و.هـ. لتل» مدير المساحة الجيولوجية المصرية، فى عام 1932 (التقرير باللغة العربية ومتاح فى مكتبة المساحة الجيولوجية المصرية – ولدى كاتب هذه السطور نسخة أصلية منه).

وربما لم تزد معلوماتنا عن المياه الجوفية فى خزان (خزانات) الحجر الرملى النوبى فى الصحراء الغربية بمصر (بما فيها الواحات) عما جاء بشأنها فى تقرير «المستر و.هـ. لتل 1932»، مما يشير إلى صعوبة وضع ميزانية مياه جوفية فى المناطق الداخلية من الصحراء الغربية والصحراء الشرقية وسيناء، تستطيع أن تصمد أمام الفحص العلمى الدقيق، وأن كثيرا من التقارير والبيانات المتعلقة بتقديرات المياه الجوفية فى خزانات الحجر الرملى النوبى فى الصحراء الغربية على وجه الخصوص، تنطوى على افتراضات مبالغ فيها جدا. ومثال ذلك ما جاء فى كتاب عن المياه الجوفية لأحد الجيولوجيين فى مصر المنشور فى عام (2000 صفحة 287) وهو أن حجم المياه الجوفية فى خزانات الحجر الرملى النوبى فى الصحراء الغربية بمصر (بما فيها الواحات) يبلغ نحو 240 ألف مليار متر مكعب (أى ما يعادل حصة مصر السنوية الحالية من مياه نهر النيل – وهى 55.5 مليار متر مكعب – خلال 4324 سنة)، وهذا تقدير خاطئ.

والمياه الجوفية فى كثير من خزانات العالم العربى الرئيسية هى مياه غير متجددة، كما هو الحال فى خزان الحجر الرملى النوبى فى المناطق الداخلية من الصحراء الغربية فى مصر، ومن ثم فإنها وإن كانت كبيرة الحجم نسبيا إلا أنها لا تصمد طويلا إذا ما تعرضت للاستنزاف الجائر، كما حدث فى مشروع الوادى الجديد فى مصر ومشروع النهر الصناعى العظيم (نهر الأنابيب) فى ليبيا. والنهر الصناعى العظيم فى ليبيا تكلف نحو 120 مليار دولار وهو مشروع فاشل بكل المقاييس، وكان يهدف لنقل المياه الجوفية من جنوب ليبيا إلى شمالها. وسبب فشل هذا المشروع اعتماده على تقارير مضللة عن حجم واستمرارية المياه الجوفية العميقة فى جنوب ليبيا – وهى مياه أحفورية قديمة وغير متجددة.

ومشروع النهر الصناعى العظيم فى ليبيا هو نموذج «ممتاز» لتكرار تجربة الفشل فى الوادى الجديد فى مصر – لأن الوادى الجديد اعتمد أيضا على تقارير مضللة عن حجم المياه الجوفية فى المناطق الداخلية من الصحراء الغربية – وهى مياه قديمة أحفورية وغير متجددة.

ومشروع الوادى الجديد فى الواحات بالصحراء الغربية بمصر والذى بدأ العمل فيه سنة 1959 كان يهدف لإيجاد تنمية زراعية على نطاق واسع باستصلاح الأراضى الصحراوية، ثم بدأ إهمال هذا المشروع اعتبارا من سنة 1975 نتيجة المشاكل التى ظهرت بسبب الاستنزاف المفرط للمياه الجوفية غير المتجددة، ومن ثم انخفاض منسوب المياه ونقص كمياتها وتوقف بعض الآبار والعيون عن التدفق التلقائى، ويعزى ذلك إلى عدم معرفة حجم المخزون المائى الجوفى فى هذه المنطقة على أى وجه من الدقة، كذلك لم يثبت بالدليل القاطع أن هناك إعادة شحن (تغذية) لخزانات المياه الجوفية فى الصحراء الغربية بمصر لا بالكم ولا بالسرعة التى يتطلبها رى أراضى الوادى الجديد.

وفى العقد التالى لإهمال مشروع الوادى الجديد فى مصر بدأت ليبيا العمل فى مشروع النهر الصناعى العظيم لنقل المياه الجوفية من الخزانات الجوفية بجنوب شرق وجنوب غرب ليبيا إلى السهول الساحلية، ذات الكثافة السكانية العالية نسبيا وخصوبة تربتها وقد انطلق مشروع النهر الصناعى العظيم، كما هو الحال فى مشروع الوادى الجديد فى مصر، من منطلق سياسى واجتماعى دون دراسة علمية يعول عليها.

وقد تزداد ملوحة المياه الجوفية غير المتجددة بسبب الاستنزاف المكثف، كما حدث فى حوض فزان فى ليبيا، ومنطقة الجفر فى الأردن، ووادى السرحان فى السعودية.

كما تزداد ملوحة المياه الجوفية فى المناطق الساحلية من الصحارى العربية بسبب الاستنزاف الجائر ومن ثم تسرب مياه البحر وتداخلها مع المياه الجوفية كما حدث فى سهل الجفارة فى ليبيا وسهل دمسرخو فى سوريا والسهول الساحلية فى رأس الخيمة والفجيرة فى الإمارات العربية المتحدة، ومواقع مختلفة من سواحل قطر والبحرين وحوض وادى بنا فى اليمن وغيرها.

فى عام 1978 كنت أعمل فى أسوان «فى مشروع التخطيط الإقليمى لمحافظة أسوان» وذات يوم من هذا العام أرسل لى المكتب الفنى لمحافظ أسوان مشروعا لدراسته وإبداء الرأى فيه وهو مشروع لاستصلاح الأراضى تقدم به إلى محافظ أسوان أحد المواطنين وهو مهندس مساحة متقاعد (ضاع اسم هذا المهندس من ذاكرتى). فقد أحضر هذا المهندس الخرائط الطبوغرافية لجنوب الصحراء الغربية فى مصر والتى تشمل الواحات ومنطقة توشكا (وليس تشكى) والعوينات وغيرها، وقسمها إلى مساحات مربعة ومستطيلة.. إلخ. وقدر هذا المهندس المساحات القابلة للاستصلاح والزراعة بأكثر من 40 مليون فدان – على ما أذكر – وطالب هذا المهندس محافظ أسوان بالعمل على تنفيذ هذا المشروع، بالغ الطموح.. وكان ردى على ما أذكر على هذا الاقتراح، أنه من حيث المبدأ يمكن زراعة مساحات واسعة من معظم الصحارى المصرية – بما فيها منطقة المشروع المقترح – بشرط توافر المياه اللازمة مع دراسة البيئة الفيزيوغرافية للمنطقة واختيار زراعات ملائمة للبيئة فى تلك المناطق.. وقد ذكرت هذه القصة فى كتابى «المياه والبيئة الطبيعية فى العالم العربى»، الصادر فى عام 2009 (صفحة 378).

خلاصة القول إنه لا يصح الاعتماد على خزانات المياه الجوفية غير المتجددة (مهما كانت أحجامها) فى إقامة مشروعات كبيرة لتعمير الصحارى، لأن هذه المياه، مهما كانت كبيرة الحجم، هى بقايا أمطار عصور جيولوجية مضت، ويتراوح أعمارها من 13 ألف سنة وحتى أربعين ألف سنة وأحيانا أكثر، وسوف تنضب هذه المياه الجوفية، ولو بعد حين، وقبل أن تنضب تزداد ملوحتها عادة بشكل يعوق استخدامها أو أنها تكون فى حاجة للمعالجة وفصل الأملاح منها (أى تحليتها). هذا بالإضافة إلى أنه لا يوجد لدينا معلومات عن حجم المياه الجوفية (بعيدا عن وادى النيل والدلتا والمناطق المتاخمة لهما) تستطيع الصمود أمام الفحص العلمى الدقيق ومن ثم لا يصح الاعتماد عليها.

* أستاذ الجيولوجيا بالجامعة البريطانية وجامعة الزقازيق