الآن وقد راحت السكرة وجاءت الفكرة. وأفقنا من حالة النشوة والفرح التى صاحبت جلسات المؤتمر الذى عقد لنصرة مصر فى مسيرتها نحو المستقبل انطلاقا من شرم الشيخ. وبعد انتهاء كل هذا الضجيج والصخب كان لزاما على كل مخلص لهذا البلد أن يتوقف ليسأل نفسه عن جدوى هذه الخطوة وما سوف يترتب عليها من نتائج. فلا يهمنا السؤال عمن زرع بقدر ما يهمنا السؤال لمن سيكون الحصاد؟ لقد انشغلنا فى هذا المؤتمر بالسؤال «ماذا» نبنى ونشيّد؟ أكثر من انشغالنا بالسؤال لماذا ولمن نبنى ونشيد؟!
لقد فتح المؤتمر آفاقا جديدة لكل صاحب مال فهل فتح مثلها لمعدومى المال من الكادحين الذين لا يملكون سوى عرق الجباه؟!
نعم هو مؤتمر للتنمية - ما فى ذلك شك - ولكن كل تنمية تتم بالكادحين وليست للكادحين هى تنمية تحمل الشك فى جدواها. تنمية غير إنسانية. تسمن السمين وتضعف الضعيف.
لقد شهدت مصر طوال الأربعين عاما الماضية تنمية من هذا النوع الذى سعى منظمو المؤتمر لإحداثها. فما كانت نتيجتها إلا زيادة فى نصيب الفقراء من الفقر لحساب زيادة أكبر فى نصيب الأغنياء من الغنى والثراء. ولم تكن زيادة معدلات البطالة فى تلك الفترة سوى الدليل الدامغ على فشل هذه التجربة التى انتهت بنا إلى الثورة لتغيير مسارها. لقد بشرتنا الحكومة بعاصمة جديدة للبلاد خصصت مائة وخمسين مليار دولار لإقامتها لنقف مبهورين أمام ماكيت العاصمة الجديدة بأبراجها السامقة وناطحاتها الشاهقة. لننسى حالنا وأحوالنا. ثم نفيق لنسأل: ماذا لو صرفنا ربع هذا المبلغ على العاصمة التاريخية لبلادنا.
فنشرنا فيها شبكات مترو الأنفاق. لتمتد إلى الأحياء والمدن المحيطة بها. وأزلنا العشوائيات لنقيم الأحياء الحديثة بدلا منها. وأخرجنا معسكرات الجيش ومنشآته من قلبها إلى أطرافها. وأقمنا ناطحات السحاب والأبراج بدلا منها. وخصصنا جزءا من هذه المليارات لإصلاح المستشفيات المهترئة. واستصلاح الأراضى وشق الترع وتحسين الأحوال بالمدن الريفية وإقامة مصنع بكل قرية خارج القاهرة؟
هل يستقيم منظر ناطحات السحاب والأبراج الشاهقة مع بلد يرزح نصف سكانه تحت خط الفقر. ويعانى مواطنوه من الأمراض المتوطنة وأزمات طاحنة للحصول على كوب نظيف من مياه الشرب. وأنبوبة بوتجاز. ولمبة لا ينقطع نورها. وتكدس فى شوارعها ومدنها ومدارسها؟ هل نحن فى حاجة إلى قصر جمهورى جديد فى العاصمة المقترحة. أم نحتاج إلى جامعة جديدة ومعسكرات لإيواء أطفال الشوارع؟!
ألا يعنى ذلك كله أننا أصبحنا مثل من يسعى لشراء بدلة جديدة ليلبسها فوق ملابس داخلية مهترئة؟!